شعار قسم مدونات

ومضات من كتاب "النقد الذاتي"

علال الفاسي
ليس غريبا أن تستوقفني بضعة أفكار عميقة وأنا أقرأ كتاب الزعيم "علال الفاسي" الشهير، والمعنون بـ "النقد الذاتي"، ولا أن أعجب بالأسلوب الراقي لهذا المفكر الأديب، الذي جمع بين ثلاثية الدين والعلم والممارسة، أو بعبارة أخرى، الذي تحرى تمثيل النموذج الأكثر ملاءمة للإنسان المسلم في مرحلة من المراحل، (بغض النظر عما تم تداوله بين الناس من سلوكيات صادرة عن الكاتب، والتي تتنافى جملة وتفصيلا مع فحوى المضامين المكتنزة في ثنايا صفحاته، فلا حكم إلا على ما شهدناه حقا بعد تأكيد صاحبه على أية حال)، وقد اكتسب الكتاب شهرته وقيمته منذ ظهوره أول مرة سنة 1952 بالقاهرة، نظرا لحاجة العرب الملحة أنداك، كما اليوم، إلى إعادة التمحيص في بعض الأمور الجوهرية والمتعلقة أساسا بأفكار أفراد المجتمعات الإسلامية..

ولعل أول ما شدني إليه في كتابه هو ملاحظة أن معظم أفكاره تتناسب بسلاسة مع فئة الشباب، أكثر من أي فئة أخرى، ولذلك، تبدو جل مراميه منسجمة مع المحيط الذي أيقظه الظلم في بلاده من تطبيع الأجداد إلى نهضة الأحفاد، التي، لولا غياب هذا النوع من النقد، لتغيرت الكثير من الأشياء.. يدعو الأستاذ علال الفاسي إلى تبني منهج الأرستقراطية الفكرية كوسيلة لانتشال الشباب من أودية التجاوز والتقليد، ودفعهم نحو بحور التجديد والمعرفة واليقين، حيث يقول في فقرة من الفقرات: "إن حاضرنا العلمي أفقر من أن يسد حاجة شبابنا، وحاضرنا الفكري أضعف من أن يواجه الأفكار المتعددة أمام عين الطالب النشيط"


يجب أن نكون منسجمين مع اختياراتنا كمجتمعات مسلمة، وألا ندع فرصة التغول للأفكار الغربية الدخيلة والتي لا تلزمنا بالشكل إلا مع اصطحاب مضامينها وسياقاتها المختلفة

في مؤلفه، يدعو الكاتب إلى إعمال العقل وإشخاص البصر، والابتعاد قدر الإمكان عن العقلية التقليدية الجافة، ولعله استمد هذه الدعوة من آيتين يقول فيهما عز وجل: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (العنكبوت: 20).

"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ

" (لقمان 21).

ففي الأولى، دعوة إلى التعلم والتفكر، وهو ما يوافقه عليه الأستاذ جودت سعيد، في كتابه "حتى يغيروا ما بأنفسهم"، في حثه الشباب على التركيز على بناء الرصيد العلمي والتزام الصبر وطول الأمل في سبيل تحقيق ذلك، عوض الاكتفاء بالدوافع الخبزية المجردة، وذلك تثبيتا لما أمرنا الله به في كتابه وحثنا رسول الله عليه.. وأما الثانية، ففيها استنكار لتقليد الناس المبني على التوارث دون إعمال الذي ميز الله به الإنسان على باقي المخلوقات، ولعل هذه الطريقة في التفكير تقي الفرد شر العامية والارتجالية التي تحدث عنهما الكاتب في موضع آخر.. والمعلوم أننا لا نستطيع جعل الإنسان حيوانا بالمادة، لكن لنا القدرة على فعل ذلك معنويا وبشكل أيسر، إن نحن سلبناه صفة العقلانية، وجعلناه قالبا لا يهتم بفكره ولا ما دون جوفه.. لكن الغايات السامية أشد صعوبة وتحديا.

يستشهد الأستاذ بمقولتين للأديب الفرنسي فولتير (voltaire)، مكملتين لبعضهما، حيث يقول في الأولى: "إذا أردت إنهاض شعب فعلمه كيف يفكر" ثم ينتبه إلى إرشاد التفكير، فيردف: "العقلاء من يوجهون التفكير" وذلك خلافا لمبدأ النازية (حيث التفكير للزعماء والقادة فقط)، أي أن النهضة المنشودة متعلقة أساسا بقدرة القادة على تعميم الأفكار وتوجيهها، وتختلف هنا أساليب التعلم! 

يشير المؤلف إلى نقطة مهمة أيضا، قريبة الصلة من سابقة الذكر، وهي تداعي الأفكار، أو الانتقال من حال إلى حال، دون الثبات على ما صح من الأحوال، فنجد الشباب يمرون في حياتهم بمرحلة تيه وشرود، لا يكونون بموجبها قادرين على تحديد نقطة الوصول، فيظلون صرعى بين قصوتين: بين هضبة الزهد وحافة الالحاد.. ولا يكون ذلك في أغلب الأحيان إلا نتيجة الرغبة في عيش المغامرة وتجربة المستحدثات.. وهو في الحقيقة تعبير عن عدم حدوث الاقتناع، ووجود إشكالات عميقة لدى الشباب تخل بسلامة عقيدتهم.. وقد عرفنا الزمان أن ما يأتي بسرعة يذهب بسرعة، فكيف يراد لما جرف النهر أن يستقر فيه؟! 


 يدعونا هذا إلى إعادة التفكير في مناهجنا التربوية، والوقوف عند مسألة ترشيد التدين في الأوساط "الدينية"، ولا يتأتى ذلك لمجتمع، في نظري، إلا بإشراك الفئات المتضررة، أو تلك التي عانت مما سبق ذكره، في تشخيص مواطن الضعف واقتراح صيغ لتقويتها، وذلك عبر برامج طويلة المدى، تكون ناجعة أكثر إن هي انتقلت من الأعلى نحو الأسفل..

أما في مسألة الفكر الديني، سواء في علاقة العلم بالدين أو في الدين بالدولة، فيجب أن نكون منسجمين مع اختياراتنا كمجتمعات مسلمة، وألا ندع فرصة التغول للأفكار الغربية الدخيلة والتي لا تلزمنا بالشكل إلا مع اصطحاب مضامينها وسياقاتها المختلفة، وأي إسقاط لا يؤخذ فيه بعين الاعتبار ذلك التباين الصارخ في الأرضية لا يعتبر حلا، وإنما مشكلة أخرى تنضاف إلى إشكالات المجتمع المسلم.

فالوضوح والانسجام مع اختياراتنا الداخلية هو ما يجب أن يصاحبنا في إنتاج الأفكار واعتماد النظريات، حتى يكون البناء الفكري عندنا سليما معافى وليس هادما للمجتمعات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.