شعار قسم مدونات

بوصلة العرب

blogs - arab
تأصيل الإحساس بالأنا الجماعية المستهدفة والمظلومة سم يقتل نزعة الإحساس بالمسؤولية ويحد من دور عامل التفائل، العنصران اللازمان لدفع عجلة التقدم والتحضر في الاتجاه السديد، فمثلما توجد بذور لليأس والقنوط، توجد بنفس الحقل بذور أخرى لبث الحماس وزرع التفائل؛ ونسبة التركيز على واحدة دون الأخرى ونوع ترتيبهما في التقديم للعقول هو الذي يحدد وتيرة واتجاه هذه العجلة.

فالحضارة الحية والتقدم فيها عبارة عن "ورش" مفتوح لحل المشاكل ولرفع التحديات وتجاوز سلبياتٍ ما تفتأ لتعوض بأخرى تعامل بنفس المنطق، تصاحب ذلك دورة دؤوبة لتشبيب وسقي بذور الثقة والأمل للمحافظة على وتيرة السباق مع الزمن؛ وليسا رقما قارا ولا مقعدا مريحا في المقدمة كما يظهر من السطح؛ فالرؤية النافذة لعمق سيرورة الأمور بالغرب تلاحظ الحضور القوي والمستمر للمشاكل وللعيوب كما السلبيات، إلا أنها لا تصيب نواة الثقة والتفائل مهما بلغت من حدة، فقط وفقط، لأن الخلفية النفسية ليست هي نفسها الموجودة عند العرب.

حلة المظلومية هذه لو ارتدتها الخلفية النفسية لثقافة اليابانيين والبريطانيين لما قامت لهما قائمة بعد السقوط السحيق في الحرب العالمية. فكيف استطاع الآخر العودة إلى مضمار السباق؟!

فهذه الأخيرة ستبقى عصية على الاستقلاب خارج محطات معينة ونادرة، نظرا لضعف حضور المثقف التنويري مع ضعف الإقبال على منتوجه أصلا، الأمر الذي يرتبط بشكل مباشر بحاجة الاستبداد لمداهنة المجتمع وتحفظه على المس بأركان المعادلة القائمة. كما يرتبط وبشكل غير مباشر بخلل ميز ظروف نشأة هذه الخلفية النفسية إبان فجر التدوين العربي خلال عصر الشعر الجاهلي، حيث قيمة ما يأخذ باللين والمسايسة هي أدنى بكثير مما يأخذ بالعنف والسيف مهما بلغت التكلفة والخسائر، فهي رموز ومكونات ﻷنا القوة والبأس التي لا تقبل بشيء سوى التفرد والاستفراد، بدل الأنا المركبة من السلم والحلم كأصل والعكس مجرد استثناء عند الضرورة لا مبتغى في حد ذاته، فالأنا البسيطة هي الأقوى في الحقيقة مهما ظهرت متواضعة في الشكل.

خلل خضع لعلاج ناجح فجر الإسلام الذي خضعت لقاحاته النورانية بدورها بعد ذلك لعملية تكثيف توقع أصحابها الزيادة في المفعول فكان العكس هو الحاصل، فكيف بالمشروع الإسلامي يبنى رغم ظروف الصراع الذي ميز النشأة بخطاب بسيط وتقديم أبسط لنصوص مضبوطة وواضحة؟ وكيف لمفعول لقاحه الأخلاقي يتناقص مع تضخم حجم النص والهامش؟ إنها انعكاسات التكدس الناجم عن عجز العصر الأموي عن إبداع حقول جديدة لامتصاص فوائض الطاقة المكتسبة من التوسع والتنوع، فأعيد تدوير الحقول الموروثة وتضخم الحجم بشكل غير طبيعي، حيث تزاحمت قيمة الشكل مع قيمة اللب في سبيل إضافة الجديد دون جديد في الجوهر. ليسلم الجميع بعدها بأن شفافية النص قد غدت ملتبسة بعكس ما شهد له به الوحي من يسر وكمال. تكثيف أصاب عملية نقل المعرفة بسمنة أثقلتها وحدت من انسيابية رواجها وجودة منتوجاتها، لما قصم صدر المتلقي بثقل ما حمل أو ما فرض عليه حمله كحد أدنى للاعتراف بمكانته.

الحرب العالمية التي يبدو للناظر وكأنها قد مرت من هنا لا من هناك! والتي ضاهت أوجاعها مجموع أوجاع العرب أو أكثر، فكيف جفت دموعهم وكيف امتص الجد والنشاط أوجاعهم؟ وكيف جثم اليأس والقنوط هنا؟

فهذا الخلل هو أصل عطب الانحباس الذي دفع إلى التقهقر التدريجي الذي تُوج باحتلال المقعد الحضاري من طرف الآخر، في تدافع وتداول كوني ذي قوة جبارة سمتها القسوة والحدة، في مخاض ما كانت لتولد أي حضارة مكان أخرى بدونه، ليفتح الباب أمام بروز علة هذه الأنا المتجلية بوضوح في تأويل الخطاب للتقهقر على أنه ظلم ما كان ليقع، فعلى الترتيب في نظره أن لا يتغير حتى لو تقاعس الأول فعلى البقية التقاعس أيضا.

حلة المظلومية هذه لو ارتدتها الخلفية النفسية لثقافة اليابانيين والبريطانيين لما قامت لهما قائمة بعد السقوط السحيق في الحرب العالمية. فكيف استطاع الآخر العودة إلى مضمار السباق وكيف فرط هذا في التحكم في مشاعره وفي ضبط سلوكياته واختار لوم الآخر بدل لوم نفسه واستنهاضها من جديد؟ فإلى اليوم يبقى حلمه الريادة بدون ثان ولا ثالث خلفه هو الحق وسواه الباطل؟

لقد أسس الواعظ وشارك الفنان فناضل السياسي في بناء وصيانة الأنا المظلومة اللامسؤولة، التي تتبنى قدسية وطهرانية غير طبيعية على حساب تدنيس وتنجيس الأنا الأخرى المنافسة والشريكة أيضا كالفئوية والعرقية في سبيل شيطنة النجاح بعد تكفيره بالأمس، رغم وجود نسبية تبقى عاجزة عن قلب الاتجاه نظرا لقوة نفوذ ومصالح تيارات المحافظة. حلة نفسية تحافظ على كينونتها برفض كل طعن في لحن المظلومية الشجي الذي يصعب فطامها منه.

ومن جهة بسهولة تلبيس العازف خارج الجوق لبوس الشرود والفسوق، نظرا لتشابه مقاسه مع مقاسات التملق والعمالة، ونظرا للتقارب الكبير أيضا بين مقاطع معزوفته الهادئة مع معزوفة الآخر المتقدم الظافر أو الظالم الآثم. بحيث يعجز خطاب التنوير عن فك هذه المعادلة التي سفهت الحلم والحالم، خاصة مع كون المقدس هو الوجه الثاني للحالة المراد علاجها، ليحتفظ الاتجاه باستقرار في الأداء متمتعا بطاقة متدفقة وقاعدة صلبة ستضمن له الحياة حينا من الدهر.
 

سيبقى التغيير الكبير لاتجاه بوصلة العرب عصي المنال طالما أن القابلية للتنازع هي الأصل، وما دروس ونتائج الربيع العربي ببعيدة، فالعامل الخارجي المتآمر أو الداخلي الشاذ عن الإصلاح عنصران يستحيل غيابهما عن أي تجربة، فمهما بلغا من شراسة ومكر فإن ربطهما لزمام الأمور باليد يرتبط بقوة هذه الخلفية أكثر منه ببقية العوامل. فنفسية العربي أسعد بقلب الطاولة مع تصدر العنوان منها بالمباركة أو الانسحاب دون شوشرة، ﻷن الانسحاب أو التراجع مهما بلغت ثمارهما من فضيلة هما أشر من هزيمة طبقا لمقومات هذه الخلفية.

الدراما والسينما المصرية هي أكبر معلم للأجيال بأن الفضيلة هي رديف الفشل والدروشة، والنجاح والتفوق هما الوجه الثاني للمكر والخديعة، حيث انتقلت اليوم إلى زرع سم "التريأة" و"العبطية" في مخ المراهقين كميزة ضرورية للتميز.

والفرد العربي أشد حبا للتملك ولخدمة منظومته، منه ميلا للتشارك وللصبر على دربه، فالأنا المتضخمة تجد صعوبة في التعايش مع الأنا المتعددة المتراصة. وإلا كيف قبل العقل العربي بثورته على اﻷنا الشريكة المسؤولة، ويقبل دوما بتحميل الأنا المنافسة بقية الأوزار، ولا يقبل بالحديث العميق في أوزار وفي مركبات أناه العليلة إلا إن كان الأسلوب سطحيا وتضامنيا.

إن النجاح في تحقيق التخلف المزمن عن الركب هو نظام متكامل وليس مجرد صدفة أو حالة عرضية مثله مثل التقدم المستمر، ويبقى الاتجاهان معرضان للحوادث التي هي مشجب هنا ومحطة جديدة هناك، كالحرب العالمية التي يبدو للناظر وكأنها قد مرت من هنا لا من هناك، والتي ضاهت أوجاعها مجموع أوجاع العرب أو أكثر، فكيف جفت دموعهم وكيف امتص الجد والنشاط أوجاعهم؟ وكيف جثم اليأس والقنوط هنا؟

إن زوج "العرف" و"الثقافة" هو المنتج للنظم وللأنظمة متقدمة أو غير متقدمة، وهما المتحكمان في أسس نجاحها أو فشلها، والمستقبل يقف على ضرورة تعديل مقومات الخلفية الشمولية، عن طريق تركيز الإنتاج الفني على تعديل مركباتها لمعالجة نواة منظومة تشغيل العقل العربي، في ورش يستحيل تأمين التنمية قبل إتمامه. فحصاد اليوم هو من زرع أمسٍ قد ارتكب الفن فيه جناية كاملة في حق العقل العربي المعاصر.

فالدراما والسينما المصرية هي أكبر معلم للأجيال بأن الفضيلة هي رديف الفشل والدروشة، والنجاح والتفوق هما الوجه الثاني للمكر والخديعة، حيث انتقلت اليوم إلى زرع سم "التريأة" و"العبطية" في مخ المراهقين كميزة ضرورية للتميز. والفرق بين طبع كبار نجوم الغرب وطابع أشهر أعمالهم الفنية في عمومه، وبين نظريتها العربية هو الفرق نفسه بين المردودية الفردية للطرفين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.