شعار قسم مدونات

أوروبا حيت تنتهي الأحلام

blogs - مسافرة
كنا صغارا وكنا نسمع عن العالم الآخر من خلال هدايا بعض المهاجرين من الأهل الذين لا يضيعون فرصة واحدة للتباهي أمامنا بما اكتسبوه هناك، هناك حيث الحلم الفتي يتضاخم ويكبر ويتعمق في نفوس بعضنا.

كبرنا وكبرت هواجسنا معنا، وتضاعفت مخاوفنا حول المستقبل الذي بدأ يشغل كل حاضرنا، كنا طلبة يملؤنا الطموح والعزم والتقة أننا قادرون على كل شيء، على أي شيء، وأن المستحيل كلمة لا تنتمي لقاموس اللغة العربية، وأن دم أجدادنا الشجعان لا يزال يسري في عروقنا، وأننا وأننا، وأننا قادرون بعزمنا على جعل الجبال تنحني أمام أرجلنا.
 

وكبرت أنا بهذه العقلية السليمة حد الجنون، وبهذه الرغبة الجامحة في صنع المستحيل، وفي تخطي كل الصعاب مهما كانت وكيفما كانت؛ لأنني كما كنت دائما أؤمن وأعتقد أن أساس الدنيا الإصرار والثبات على الرأي السليم والعمل الجاد.

كبرت ويا ليتني ما كبرت، ويا ليت حلمي ما كان الاغتراب، ويا ليت طموحي أخذ محورا مغايرا، كل ما كنت أراه في أوروبا هو كونها وجهة الأضواء والجمال والموضة وكل ما نراه على شاشات التلفاز في الأفلام السينيمائية من سيارات فاخرة وتكنولوجيا متقدمة، حتى مستشفياتها تشتهي الأنفس أن تلتقط داخلها صورة.

كان حلمي الوردي  تذكرة إلى بلاد العطر والشوكولا والأعياد المقدسة والرومنسية الفائضة، لم أتخيل يوما أنها ستكون التذكرة إلى عالم آخر لا علاقة له بالحلم إطلاقا.
لكل الراغبين في الرحيل تمهلوا، رويدا، راجعوا حساباتكم مع الوطن، وأوثقوا حبال الود مع الواقع وتوقفوا قبل أن يأكل الوهم كل جميل في دواخلكم، توقفوا وتراجعوا، فالهجرة خطيئة لا تغتفر، ولا قربان لكم لتقدموه ليصفح لكم.

تمهلوا قبل أن تجعلوا الغربة وجهتكم الحلم، حتى لا تستيقضوا على واقع أليم، افتحوا أعينكم قبل قلوبكم، وتمهلوا قبل إطلاق العنان لخيالكم الواسع حول جنة الضفة الأخرى ونعيمها.

لكل الراحلين بحثا عن جزء ناقص منهم، توقفوا، فالغربة بقدر ما تعطي تأخذ، وبقدر ما تغني تفسد، وبقدر ما تبعد تعذب، وتتلذذ بكسر شيء من من يركع أمام نعيمها.

أوروبا حيث ينتهي الحلم وتبدأ عواصف الواقع البارد ببرودة طقسها وانحلال شعوبها وتشتت أفكار مواطنيها، بقدر تشتت هوياتهم وثقافاتهم، وانتماءاتهم العرقية والدينية والفكرية، هنا حيت يباع كل شيء ويشترى، حيت تفقذ كل الأشياء قيمتها لفرط سهولة امتلاكها، هنا حيت يركض الجميع كدمى آلية  مبرمجة في سباق السرعة اللامنتهي، يصارع  المواطن  الزمن، فالوقت هنا كالسيف إن لم تقطعه قطعك، هنا حيت يفقد المهاجر جزءا كبيرا من هويته وهو يحاول التأقلم مع واقعه الجديد، ولكونك مهاجرا يطلب منك أن تكونا مواطنا فعالا بنسبة ألف في المائة لتثبت جدارتك ولتستحق منصبك، ولو كان قليلا شأنه.

هنا حيت تغيرت كل المفاهيم بعد زمن العولمة والربيع العربي وقدوم ترامب والهجمات الإرهابية المتكررة، والتي ربطوها أساسا بالإسلام والمسلمين، قديما كان العربي محط  إعجاب لفحولته وقدرته الخارقة على العمل لساعات طوال وأمانته وامتيازه عن غيره بأخلاقه الراقية، أما اليوم فحيثما حل العربي حلت معه المشاكل ونظرات الحقد والعنصرية لما خلفته القضايا العربية من لاجئين هاربين من الموت المحقق، الطامحين إلى بعض من العيش الرغيد على أرض الأوطان التي ما فتحت لهم أبوابها إلا لحاجة في نفس  يعقوب.

أوروبا يا عزيزي ستطالبك أولا بتكلم لغاتها، ثم الالتزام بقوانينها، تم ارتداء ملابسها، وستطلب منك اتباع سياستها ومعايشة سوء مناخها حتى يبيض جلدك الذهبي المتلون بدفء شمس تركتها خلفك، وستتعود معدتك على تلك الأطعمة سريعة التحضير لتنسى أطباق والدتك الشهية، وحتى وإن حالفك الحظ وكونت عائلتك هنا، سترى أطفالك يولدون بلا هوية، ليصبح شغلك الشاغل تعليمهم حرفا من حروف لغتك الحبيبة، ليقرأو ما تيسر من كتاب رب العالمين.

وستكافح أكثر من صديقك الذي بقي يكمل حلمه على أرض الوطن لتثبت للعالم أن اختيارك صائب جدا، وأنك سعيد جدا، وأنك قطعت سنوات ضوئية لتحقيق مرادك، ولكن الحقيقة هي أنك ستتعلم إتقان الكذب على الذات، حيت يصبح شغلك الشاغل النجاح في زواجك أو في عملك مع الحفاظ على كل قواك العقلية سليمة سالمة، وأن تبقى قادرا على النوم كل ليلة بدون تناول مهدئات أو منومات، وأن تكافح ضد الأمراض النفسية والعضوية الناتجة عن التوتر المزمن والحاد الذي تهديه الغربة لكل من يختار أن يرتمي في أحضانها.

لهذا تمهلوا قبل أن تجعلوا الغربة وجهتكم الحلم، حتى لا تستيقضوا على واقع أليم، افتحوا أعينكم قبل قلوبكم، وتمهلوا قبل إطلاق العنان لخيالكم الواسع حول  جنة الضفة الأخرى ونعيمها،  فالسفر قرار  البعد، والابتعاد اختيار، ولتكن كل نفس مسؤولة عن قراراتها واختياراتها، وليشهد العالم اليوم أني قد بلغت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.