شعار قسم مدونات

عندما هدد الأمريكيون بإنقاذنا

blogs- حرب أكتوبر

التاسع عشر من ديسمبر عام 1973 مظاهرات غاضبة أمام جامعة بار إيلان في تل أبيب لضحايا حرب أكتوبر احتجاجا على محاضرة لموشي ديان الذي حاول الحفاظ على بعض ماء وجهه بالحديث إلى الجامعيين بعدما نجحت المظاهرات في منعه من إلقاء محاضرته. خلال هذا الحديث ألقى بقنبلته التي غيرت مفهوم التي عبرت بدقة عن تغير الموازين الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط حتى يومنا هذا.. لقد هدد الأمريكيون بإمداد الجيش الثالث بالهليكوبتر إذا استمر الحصار، هكذا قال.
 

لم تكن حرب أكتوبر هي فقط الأسبوع الأول الذي يحتفي به الجيش المصري كل عام والذي تمت فيه كل الإنجازات المصرية في الحرب، وإنما تبعه تفاصيل مؤلمة نابعة في الأساس من طبيعة الحروب كمظهر من مظاهر الحياة، حيث تنخفض رايات الأطراف المتحاربة وترتفع عدة مرات وتتحدد نتيجة المعركة بمشهد إقفالها، وحيث تكون راية المنتصر مرتفعة والمنهزم منخفضة رايته، ولقد شهدت الحرب انخفاضا تدريجيا لرايتنا منذ الرابع عشر من أكتوبر حتى انتهت الحرب، وأحد الجيشين العابرين لقناة السويس يوم السادس من أكتوبر وهو الجيش الثالث الميداني محاصر بالكامل من قبل الإسرائيليين.
 

الضغط السوفيتي لم يكن هو السبب الوحيد الذي دفع الولايات المتحدة إلى إنقاذ كرامة المصريين وإنما كان ذلك توجها استراتيجيا أقر ساعتها وأثبت وجوده وصحته إلى يومنا هذا.

ليس هذا فحسب وإنما من الضفة الغربية للقناة بقطع طريق السويس القاهرة. وللانخفاض أسباب عديدة وروايات مختلفة تمتلئ بها مذكرات قادة الحرب من الجانبين ومن السهل الرجوع لها وإن كان استخلاص الحقيقة من بين تضاربها بالغ الصعوبة. وما يهمنا في هذا المقام هو مشهد النهاية المخزية بالنسبة لمصر حيث بلغت الوقاحة أو قل الغلبة بالإسرائيليين أن بدأت بإلقاء منشورات على مواقع الجيش الثالث تطالبه بالاستسلام التام. فما الذي جعل الولايات المتحدة تحرص على إنقاذ الجيش المصري من ورطته حتى هددت بإمداده بطائرات أمريكية رغم ما عرف عن الأمريكيين من المراهنة دائما على الحصان الرابح؟!
 

أحد أهم عناصر الإجابة أن الولايات المتحدة لم تكن وحدها في سباق دعم الأطراف المتحاربة واكتساب أكبر قدر من النفوذ في نهايتها. لقد بادر الاتحاد السوفيتي بتعويض القوات المسلحة المصرية والسورية بعد بدء الحرب من خلال جسر جوي في العاشر من أكتوبر بعدما أظهرت الصور التي استخلصوها من القمر كوزموس في اليوم التاسع أن العرب خسروا الكثير من المعدات بعد ثلاث أيام من المعارك العنيفة. لقد كان حرص السوفييت على المتابعة والتدخل والدعم لافتا خاصة إذا تم مقارنة باللامبالاة لتي واجهت بها الهزيمة العربية عام 1967 فلم تمد أصبعا للإنقاذ..

يبدو أن نجاح عملية العبور والتخطيط لها أدى إلى تغير نظرة السوفييت للمصريين حيث أثبتت القوات المسلحة المصرية بنجاح التخطيط لهذه العملية قدر من الكفاءة يجعلها جديرة بمحاولة الحفاظ عليها كصديق في هذه المنطقة دائمة التوتر. والواقع أن السوفييت لم يتوقفوا عند إقامة جسر جوي لتعويض خسائر المصريين والسوريين وإنما هددوا في مرحلة ما بالتحرك لفك الحصار عن الجيش الثالث إذا لم تسمح إسرائيل بمرور الإمدادات له وتلتزم بوقف إطلاق النار الذي أعلن في السادس والعشرين من أكتوبر. وقد كان هذا التهديد ربما العامل الأكثر إلحاحا الذي أدى بالأمريكيين بإرسال تهديد مماثل للإسرائيليين كما يروي ديان، وذلك لأن هذا التدخل السوفيتي إذا تم سيمثل أزمة كبيرة للطرف الأمريكي. فإذا تغاضت عنه الولايات المتحدة كان هذا نقلة كبرى في النفوذ الدولي للاتحاد السوفيتي وتفوقا عليها في السباق الدائر بينهما لا يمكن لكبريائها أن تتحمله.
 

وإذا ردت على التدخل بمثله فهذا يعني قيام حرب عالمية ثالثة لا يعلم أحد كيف ستنتهي. ولأن خيار المواجهة المباشرة بين القطبين كان ممنوعا بموجب اتفاق ضمني فلم يكن أمام الولايات المتحدة سوى الضغط بقوة على الإسرائيليين للالتزام بوقف إطلاق النار والسماح بمرور الإمدادات للجيش والمحاصر وإن سمحت لها بربط الإمداد بتطور مفاوضات فك الاشتباك، لكن الضغط السوفيتي لم يكن هو السبب الوحيد الذي دفع الولايات المتحدة إلى إنقاذ كرامة المصريين وإنما كان ذلك توجها استراتيجيا أقر ساعتها وأثبت وجوده وصحته إلى يومنا هذا.

كان الجنود المصريون مدربون جيدا.. قساة ومنضبطون، كانوا بشكل عام من الأرياف مع أعداد كبيرة من المتعلمين تعليما ثانويا وعاليا مما أعطى الجيش المصري وعاء بشريا قادرا على استيعاب الأسلحة والأنظمة الحديثة المضادة للدبابات، فأصبحوا صائدي دبابات. على الجانب الآخر كان الجندي السوري منضبطا قاسيا وذا تدريب عال، ولكن الخميرة المتعلمة لم تكن موجودة في الجيش، هكذا وصف إدجار أوبالانس الكاتب العسكري البريطاني فارقا جوهريا وعميقا بين الجيش المصري والجيش السوري في ذلك الوقت وهو المستوى التعليمي للقوات.
 

استطاع المجلس العسكري في مصر طي الثورة واستعادة السيطرة على المصالح الأمريكية بخسائر لا تقارن بما يحدث في الدول الأخرى، بينما الحليف "الغبي" للروس أشعل حربا أهلية وأجبر روسيا على القتال.

والحقيقة أن الإحصاءات الكمية والقياسات الكيفية تبين تفوق الجيش المصري بل ومسار العمليات نفسه. فقد كان أمام المصريين خط دفاعي معقد ومانع مائي ومع ذلك استطاعوا الحفاظ على مواقعهم بعدما اجتاحوا الخط الدفاعي بقوة، بينما ارتد السوريون إلى خلف خط وقف إطلاق النار وخسروا الجولان مرة أخرى. أصبح للمصريين بنهاية عملية العبور 1500 دبابة على الضفة الشرقية لقناة السويس و400 على الضفة الغربية كاحتياط. تأمل الأمريكيون هذا المشهد فوجدوا أن الجيش السوري حليف للسوفييت بينما الجيش المصري صديقا لهم وهو الأكثر كفاءة فرأوا فرصة لا تعوض لإحداث انقلاب في الميزان الاستراتيجي للمنطقة، واجتذاب الجيش المصري إلى جانبهم.
 

لم يكن أفضل من مبادرة التهديد بإنقاذ الجيش المصري المحاصر كيد ممدودة بالصداقة إلى العسكريين المصريين. كانت وسيلة جيدة لترويج الانتقال للفلك الأمريكي في صفوف الجيش المصري الذي عرف فقط صداقة السوفييت منذ العام 1956. كان هذا الانتقال يصادف هوى في نفس القيادة السياسية المصرية في ذلك الوقت، لكن قبول العسكريين به كان أمرا آخر خصوصا بعد نهاية حرب مع عدو دعمه الأمريكيون بقوة، لكن التهديد الذي صدم الإسرائيليين مجتمعا وساسة بقوة قد أحدث الأثر المطلوب حيث بدأت الزيارات المتبادلة بين القيادات العسكرية الأمريكية والمصرية بعد توقيع اتفاق فك الاشتباك وانطلق قطار التحالف العسكري المصري الأمريكي.
 

ويجب أن نعترف ببراعة الأمريكيين في الاختيار، فقد أثبت التحول نجاعته مع أول اختبار جدي عندما اجتاحت القوات الإسرائيلية بيروت عام 1982 دون أن تقوم حرب شاملة، بل إنه يثبت نجاعتها حتى الآن، فقد استطاع المجلس العسكري في مصر طي الثورة واستعادة السيطرة على المصالح الأمريكية بخسائر لا تقارن بما يحدث في الدول الأخرى مع فظاعتها، وحافظ على كيان الدولة المصرية. بينما الحليف "الغبي" للروس أشعل حربا أهلية وأجبر روسيا على القتال للحفاظ على فتات باق من مصالحها. لقد خرج الأمريكيون من أزمة حرب 1973 بأقوى جيشين في المنطقة العربية في قائمة الحلفاء فكانت ضربة موفقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.