شعار قسم مدونات

تحيا مصر.. هكذا هتف أثرياء المشاعر لفقرائه

blogs - المنتخب

مصر مصر.. تحيا مصر .. لم أشاهد مباراة المنتخب المصري، ولم أتابع مباريات منذ أحداث ملعب بورسعيد الدامية التي راح ضحيتها 72 من خيرة شباب مصر، ولو كنت فاعلا ما كان من اللائق أن يحدث هذا في الذكرى الخامسة للمجزرة، والذي شاء القدر أن يوافق يوم المباراة. غير أن فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي استوقفني وأبكاني، شباب وأطفال وكهول انتابتهم فرحة عارمة، ورقص وجنون وهتاف هستيري، باسم حارس مرمى المنتخب المصري عصام الحضري، فور انتهاء ضربات الترجيح في المباراة التي انتهت بفوز منتخب مصر على منتخب بوركينا. 

لم يكن هذا المشهد الطبيعي في إحدى مقاهي القاهرة، بل كان في إحدى ضواحي مدينة غزة الفاضلة، التي تنازل عنها عبد الناصر من قبل، ويحاصرها النظام الحالي، بل ويساهم في قتل أهلها أحياء، مشاركًا بذلك الكيان الصهيوني في الحصار. لم يمنعهم تصرف هذا النظام الطائش من انتمائهم العربي والإسلامي والروحي في التعبير عن فرحتهم بتأهل مصر لنهائي أمم إفريقيا. لم يمنعهم موت ذويهم في معبر رفح أو معبر الموت -إن صح التعبير- من أن يفرحوا لنا، لم يمنعهم تطاول إعلام العجل المقدس القابع على رأس السلطة في مصر ورميهم بتهم باطلة مثل الإرهاب والخيانة وغيرها من أن يفرحوا لنا. لم يمنعهم هدم الأنفاق وتضييق الخناق عليهم ومحاربتهم في أقواتهم من أن يفرحوا لنا، كانوا أسخياء في مشاعرهم، وكنا بخلاء.

الأغاني الوطنية واللعب على مشاعر الفقراء والمرضى والمحرومين من أبناء هذا الوطن المتهالك، الذي أضحى قزما طريح الفراش ودخل في حالة موت سريري، ينتظر مباراة كرة قدم تنعشه ثم ما يلبث أن يعود للموت من جديد في انتظار صعقة تقضي عليه أو تحييه.

ليس غريبا علينا هذا البرود تجاه غزة والقضية الفلسطينية كلها، وليست غريبا عليهم تلك الحميمية والمحبة تجاهنا، فلم يكن هذا أول موقف مسجل تجاه مصر في مباراة عابرة لكرة القدم، ولكن هناك آخر لمذيع الشارع يصور فيه أطفال غزة ويسألهم، ماذا لو قامت إسرائيل بحرب ضد مصر؟! فكانت ردود الأطفال مبكية، والتي بينت حُب مصر في قلوبهم حتى لو كلفهم ذلك دخول حرب ثانية مع إسرائيل، حاول المذيع إثنائهم عن ذلك من خلال تذكيرهم بمواقف مصر السلبية والمخزية والباردة في التعامل مع غزة وجراحها، إلا أن جوابهم لم يتغير، والفيديو موجود على موقع  youtube  لمن أراد مشاهدته. أتسائل ماذا لو سُجل مثل هذا الفيديو في مصر تجاه غزة والقضية الفلسطينية؟! كيف ستكون ردة فعل أطفالنا؟! أحسبكم تعرفون الإجابة.

لم يكن من الغريب أن يخرج عبد الفتاح السيسي قائد الانقلاب العسكري منفعلًا في خطابه الأخير وهو يعير المصريين بفقرهم قائلاً: 
 

محدش قالك إنك أنت فقير أوي؟! ياريت حد يقولكم ان احنا فقرا اوووي". لم يكذب الضابط الصهيوني -كما وصفه أمين عام حزب الله السابق في خطبته من قبل- حينما قال إننا فقراء، نعم فقراء في مشاعرنا، تجاه من بادلونا الحب بسخاء.

لم ينته الأمر عند أهل غزة، بل كان لأهل الضفة من الفرح نصيب، ومن مفارقات القدر، قبيل ليلة المباراة كنت في حديث مع صديق لي فلسطيني جاء لدراسة الطب، وهو يروي لي قصة دخوله إلى مصر، وكيف أن أهله وأصدقاءه هناك في الضفة أقاموا له حفل وداع بالصواريخ وهنأوه على سفره إلى أم الدنيا، وبعد خروجه من الضفة وحصوله على عدة أختام خروج منها الختم الصهيوني، ومن بعد الأردن ثم مصر، استوقفه أمن المطار وتعنت معه وقام بحبسه بحجة أن أوراقة غير كاملة، والتهمة التي لم يصرحوا بها إليه أنه فلسطيني. بعد ذلك عاد من حيث أتى إلى أن كرر المحاولة بطرق أخرى ودخل من المطار بعدما دفع. كل هذه المعاناة التي لاقاها في أم الدنيا، لم تمنعه من أن يشاهد المباراة ويفرح بفوز مصر، ويرسل لي مهنئًا إياي بالفوز، كون أم الدنيا التي عاقبته عند مجيئه حققت نصرًا في مجال ما، جعلته لا يستطيع أن يخفي سعادته ومحبته.

في النهاية الأمر أكبر من مجرد مباراة، هناك مشاعر دفينة لا ننكرها، وحب حقيقي لن يمحوه سوء أفعالنا تجاه أهل غزة، فهم أبطال صناديد، ونحن فقراء مهزومون.

وللحدث وجه آخر قبيح، بدأ بالأغاني الوطنية واللعب على مشاعر الفقراء والمرضى والمحرومين من أبناء هذا الوطن المتهالك، الذي أضحى قزما طريح الفراش ودخل في حالة موت سريري، ينتظر مباراة كرة قدم تنعشه ثم ما يلبث أن يعود للموت من جديد في انتظار صعقة تقضي عليه أو تحييه. وطن أصبحت سعادته وآماله مرهونة بأقدام لاعبين في السياسة كانوا أو في الكرة. وانتهي بقبلة حياة جديدة للنظام المصري، الذي لن يترك الحدث يمر كهذا مرور الكرام دون أن يوظفه لخدمته، فمباراة كرة قدم كهذه، أضحت تضاهي نصر أكتوبر، فالأغاني الوطنية التي تم بثها في الإعلام المصري ومحطات المترو وكلاكسات الفقراء في الشوارع بعد انتهاء المباراة تعبر عن ذلك، ولا يصفها إلا قول الرافعي رحمة الله عليه "إن الشعب الذي لا يجد أعمالا كبيرة يتمجد بها هو الذي تخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهى بها".

وفي النهاية الأمر أكبر من مجرد مباراة، هناك مشاعر دفينة لا ننكرها، وحب حقيقي لن يمحوه سوء أفعالنا تجاه أهل غزة، فهم أبطال صناديد، ونحن فقراء مهزومون، فو الله ما فرحت بفوز مصر "الفقيرة أوووي" بقدر فرحي بهؤلاء المحاصرين منا وهم يفرحون لنا، شكرًا لأثرياء المشاعر وهم يفرحون لفقرائها، شكرًا أهل غزة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.