شعار قسم مدونات

كُنْتُ هُنا يَوماً

blogs-موت
يَقولون أنتِ كُنتِ هُنا بين تلك السَماء الصافية بين أوراقِ الشجر المتناثرة هُنا وهناك، بين نَسماتِ الهواء التي تُداعِبُ وجهكِ كلما اصطدمتِ بها، كُنتِ قد بدأتِ رحلَتُكِ مِن هُنا يَوم أن ولدتِ. يقولون، ويقولون! لكنهم لا يعلمون أن تِلك الروح التي كانت بينهم كانت مُبعثره تماماً، حتى أنها عانت كثيراً لكي تكون بهذه القوة والصلابة التي أمامهم الآن.

إذن أين كُنت؟ وأين كانت روحي؟ حتي أنا لا أعلم لكنِّ ما أعرفه أن هناك شيئاً خفياً يربطني بالمكان الذي أتيتُ منه يجعل روحي تريد العودة له كثيراً يجعلني شاردة معظم الأوقات يستحوذ علي عقلي تماماً كلما حاولت أن أفكر في شيء غيره. يُقاطعني ليقول بصوتٍ يجعلني أُصم عن كل شيء حولي: لا سبيل للخلود في هذه الحياة، لن تكوني هنا بعد الآن.

أنا أتذكر كُلّ شيء، وكلّ يوم وكلّ ساعة لم أتقرب فيها مِن الله عز وجل، وكُلّ لحظةٍ لم أنتهزُ فيها الفرصة فأصيح عالياً "يا ليتني قدمتُ لِحياتي" يا ليتني!

ليست تلك حياتُك الحقيقية .. حياتُكِ الحقيقية هي ما بعد موتِك! فأفزع أنا لأقول : وهل أضمن أين تكونُ روحي بعد موتي، ليتلاشى ذاك الصوت فجأة وكأنه لم يكن، فأمضي لأُكمل ما أحاول أن أحارب لأجله إلا أن ذلك الصوت لا يريد أن يُفارقني، وكأنه خُلقَ لجعلي أتذكر كلما حاولت أن أنسى.

يقولون للذين يموتون لنْ ننساكُم لكننا سنُكمل الحياةَ بعدكُم ويقولون عن الموت أشياء لا يعرفوها لكن سيبقي الموتُ جامداً لينّاً عصيّاً أزليّاً غامض الطريقة، عندما نحزنُ تتوقف الحياة في أعيُننا ونظُن أنه لا نهاية لهذا الحُزن وأنّه ليس فوق الأرضِ مَن هو أتعسُ مِنّا فنقسوا على أنفسنا حين نحكم عليها بالموت ونُنفذ بها حكم الموت بلا تردّد فتُنزع الحياةُ مِن قلوبنا ونعيش بين الأخرين كالأموات تماماً.

– لحظة! لقد عاد ذاك الصوت مرةً أُخرى لكن تلك المرة كانت حقيقية كانت ملك الموتِ يقف في وجهي تماماً ليقول لي: انتهى كل شيء.. نعم، كلّ شيء وها أنتِ تبدئين رحلة أخرى لكنّها حقيقية هذه المرة لأن الموت حقيقةٌ لابد مِنها، ها أنا لا أستطيعُ التقاط أخر أنفاسي.. عيناي تُغمضُ بغيرِ رغبةٍ مِني.. قلبي توقف عن النبض وجسدي بات كالتمثالِ لا يتحرك.

– نعم لقد فارقتُ الحياة – فارقتُ الحياة! أكادُ أن أفارقَ الحياة مرةً أخرى مِن هولِ ما أنا فِيه! أنا أتذكر كُلّ شيء، وكلّ يوم وكلّ ساعة لم أتقرب فيها مِن الله عز وجل، وكُلّ لحظةٍ لم أنتهزُ فيها الفرصة فأصيح عالياً " يا ليتني قدمتُ لِحياتي " يا ليتني!

تبدأ رحلتي التي تحمل بعض الندم أو رُبما الكثير مِن الندم ولا أعلم أين الفرحة؟! يُحمل جسدي ليُغسّل ومِن ثَمَ يلتف حوله قِطعة مِن القُماش الأبيض لأسأل نفسي هُنا: هل سيكونُ قبري مُماثل لبياضِ تِلك القماشة؟! ليقطع بعضُ الأشخاصِ هذا التساؤل حاملين جسدي ليضعوه على خشبةٍ أُحملُ عليها إلى أن أصل لداري الجديدة، لقد فارقتُ ديار الدُنيا، حسّ قلبي بانهيار! حينها سأل دمعي واحترق قلبي وصارَ يبكي على أحبةٍ جالستُهم ليل نهار، على وقتٍ لم أنتهز فيه حتى قول أي ذكرٍ يوحِي بأني لا أنسي الله أبداً.. بللت الدُموع عيني، لكنِّ أعلم أن كُلّ باكٍ سيُبكي وكُلّ ناعٍ سيُنعي وكُلّ مذكورٍ سيُنسي ليس غير الله يبقي .

وصلت لبيتي الجديد أو بالأحرى لقبري، لا أعلم من يقف حولي لكنِّ أشعر بأهلي، ببعض الناس الذين قابلتهم صدفه في حياتي والبعض الاَخر تطوع مُتمنياً أن يأخذ ثواباً حين رأى الجنازة تسير ليس إلا، لكنِّ أشعر بصديقٍ لي يقفُ هُناك أُحاول أن أقول له شيئاً أخيراً لكن لا أستطيع.

ورُغماً عن ذلك سأقول رُبما يشعُر بي: يا صديقي أنا الآن مَيت لا تتركني وحيداً أنتَ تعلمُ أنّي أخافُ الوِحدة والصمت تكلم معي بالدعاء اجعل قبري نوراً بِدعائك لا تنساني هُناك. ليُقطع صوتي ثانيةً قرآنٌ يُتلي وأُناسٌ يصلون عَليّ، ليضعوني بعد أن انتهوا في حُفرةٍ خاليه ليس بِها سوي تُراب، لأجدَ ذلك التُراب أيضاً على وجهي.. ليس على وجهي فقط! بل وعلى كامِل جسدي. ثُم أقول ها أنا أودِعكم يا مَن تقفون هُنا.. أراكُم قريباً. ولم أعد أستطيع أن أتكلم بعد الآن.

لِتعلم عزيزي القارئ أن تحرص على الموت لكي تُوهب لك الحياة اعلم أن الموت لابُدّ مِنه وأنّه لا يكون إلا مرةً واحده فإن جعلتها في سبيل الله كان ذلك رِبحُ الدُنيا وثوابُ الأخِرة. وبالنِهايةً : تُرى أين نكّون بعد رَحِيلنا مِن هُنا؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.