شعار قسم مدونات

عن سيناء التي لا نعرفها

Hikers walk through the Wadi Hudra area near Ras Ghazala, South Sinai, Egypt, November 21, 2015. Bedouins in the "Sinai is Safe" group guided more than 100 hikers over a 25 km (15 mile) trek over the trails of the White Canyon and the Closed Canyon. The NGO aims to challenge mainstream perceptions of the area by encouraging Nile Valley residents to explore the untamed wilderness with the Bedouin tribes. Picture taken November 21, 2015. REUTERS/Asmaa Waguih
شبابٌ في مُقتبل أعمارنا، نتوق للمغامرة بطبيعة مرحلتنا العمرية، ونسعى لتجربة كل جديد وغريب، ولكن الغريب بحق أن تكون زيارة ربوع وطننا هي الغريب والجديد! سيناء كانت وجهتنا في هذه الرحلة، منظّموها شبابٌ أيضًا في مثل أعمارنا، جمعتنا الحماسة وروح مغامرة الشباب ومحاولة الترفيه عن النفس قبل بدء الفصل الدراسي الثاني، رحلة إلى مكان لم نقم بزيارته من قبل، بقعة محفوفة بالكثير من الغموض وبالتأكيد بالمخاطر، ولكنها بقعة من أجمل بقاع وطننا التي لطالما كانت محظورة ومعزولة وما زالت كذلك.
 

سعر الرحلات مناسبٌ جدًّا ما زاد بالتأكيد من أعدادنا، بالنسبة لي فوجئت بهذا الكم الهائل من المسافرين إلى سيناء، ولكن بالتدقيق وجدت أن كلهم شباب لذا فالأمر منطقي. انطلقنا في طريقنا وسط تنبيهات وتعليمات المرافقين لنا عن طبيعة رحلتنا وما سنواجهه في طريقنا من عقبات، نعبر نفق الشهيد أحمد حمدي لتتأجج الحماسة أكثر فأكثر في داخلنا معلنة عن دخولنا سيناء "الصندوق الأسود" لأول مرة في حياتنا الصغيرة.
 

طائرات وطنهم لا تغادر قواعدها إلا لقصف بيوت الأبرياء في سيناء، أو لإسعاف مواطني الدرجة الأولى، فلم تتحرك من قبل لإخوتنا فوق الجبل حين تجمدوا واستغاثوا ولم يجبهم أحد.

رمال من كل اتجاه ومساحات شاسعة بلا أي أثر على وجود مكان مأهول بالسكان، نسلك طريقنا بين الجبال التي لا تفصلنا عنها شيء، طرق ممهدة وأُخرى لا، وبالطبع لا أعمدة إنارة فتشعر كأنك غرقت في ثقب أسود معتم مخيف. "هنعمل إيه لو داعش طلعوا علينا؟!" سؤال تهكمي يطلقه أحدنا لتتعالى ضحكاتنا ونجيب: "نغنيلهم صليل الصوارم!".
 

لتقوم بزيارة سيناء -التي هي جزء من وطنك- عليك أن تكون حذرًا فيما تجلبه من مقتنيات لأنك ستمر على عدد لا نهائي من الكمائن، وأيضا أنصحك بأن تقوم بتعليق هويتك الشخصية حول رقبتك لكي لا تخرجها كلما استوقفوك وتكمل نومك بدون أن يوقظك أحد، لا أحد يرغب في أن يُخرج هويته كل ربع ساعة على مدار رحلته، سيشبه الأمر بيومي فؤاد فالكمائن تظهر من العدم، وأيضًا هي والعدم سواء؛ لأنها بلا فائدة، فتكفي نظرة المجند لهويتك لتمر، وأعتقد لو كان أحدنا جنائيًّا مطلوبًا لديهم فسيمر بسلام.

هذا إذا كنت مواطنًا من خارج سيناء، ولكن في حالة كنت سيناويًّا وخرجت منها وفي طريقك للعودة تتعرض لعملية تفتيش مُهينة لإذلالك، فقد تم إيقاف إحدى السيارات أمامنا وبمجرد النظر لملابسه البدوية تدرك أنه مواطن سيناوي.
 

أكثر ما جذب انتباهي في هذه الكمائن أنها تتألف من عدد قليل من المجندين على جوانب الطريق بلا أنوار أو مأوى أو أي دليل على تسليحهم الكافي، فقط نيران أشعلوها بما تَوفّر حولهم لتخفف عنهم صقيع الصحراء، لو اجتمع من في الحافلة عليهم سيُجْهِزُون عليهم في الحال، فما بالنا بالعناصر الإرهابية التي تتحدث عنها قيادتنا الحكيمة؟ هناك خلل مقصود ومتعمد هنا بلا شك؛ فلم أر على مدار رحلتي أي قيادات أو رُتب في الجيش إلا في أماكن مأهولة وبكامل استعدادهم وتسليحهم!
 

كانت وجهتنا الأولى قلعة صلاح الدين أو جزيرة فرعون بطابا والتي من فوقها تستطيع رؤية حدود مصر والسعودية والأردن وفلسطين المحتلة، بمجرد وصولنا إلى هناك وصلتنا رسائل على هواتفنا المحمولة ترحب بنا في الأردن وأخرى في السعودية مع العديد من عروض شبكات الاتصالات في البلدين.
 

لن أُخفي عنكم الأمر، فهذه المرة الأولى التى أعلم بوجود قلعة بهذا الاسم في سيناء، ما أعرفه أن قلعة صلاح الدين واحدة وتوجد في القاهرة. كنا محظوظين لاستطاعتنا اللحاق بشروق الشمس والتقاط بعض الصور، ولكن انزعجنا كثيرًا لأننا لم نستطع دخول القلعة؛ لأنها جزيرة وتحتاج إلى قارب للوصول إليها ولم يكن الأمر متاحًا للأسف.
 

بعدها انطلقنا إلى وجهتنا الثانية وهي خليج فيورد باي والتي لا تبعد كثيرًا عن قلعة صلاح الدين، مشهد الصخور رائع، والجبال وانعكاسها على المياه النقية مشهد خلاب لأول مرة أراه على أرض الواقع. نويبع كانت وجهتنا التالية والتي كانت مجموعة من الشواطئ والمنتجعات المطلة على خليج العقبة، تجلس على شواطئها وتستطيع رؤية حدود السعودية وجبالها مباشرة، جوها معتدل ودافئ وأهلها طيبون، قضينا وقتًا لا بأس به، وكنت أود لو طال بنا الوقت.
 

بعدها مباشرة اتجهنا إلى سانت كاترين أساس رحلتنا وعمودها الفقري، وكان من المفترض أن يأخذ الطريق من وقتنا ساعة أو ساعة ونصف، ولكن بسبب كمين استوقفنا نحن والكثير من الحافلات لمدة تزيد عن الساعتين اضطررنا لتقليص الوقت المخصص لتسلقنا جبل سانت كاترين. جبل سانت كاترين أو جبل طور سيناء الذي يبلغ ارتفاعه 2.629 متر هو أعلى الجبال في سيناء، وقد تم ذكره في القرآن الكريم في قوله تعالى: "وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ". لكي تصعد الجبل يتطلب منك الأمر العديد من الاستعدادات، فقد وصلت درجة الحرارة يوم كنا هناك -5 على الأقل، هذا فضلًا عن ضيق التنفس والتعب والإرهاق الشديدين، وبالتأكيد قدمك التي تفقد الإحساس بها.
 

وصلنا لقمة الجبل بأعجوبة وفي وقت قياسي، ومن حسن حظنا استطعنا لحاق شروق الشمس الذي كان حقًّا يستحق هذا التعب، كانت السحب في مستوانا وكنا فوقها، والشمس تشرق من خلف الجبال في مشهد بديع، سبحان الخالق! لم يختلف كثيرًا طريق العودة، وتنفسنا الصعداء أخيرًا بعد خروجنا من النفق مرة أخرى، فلا كمائن بعد الآن!
 

ربما تنفست أنا ورفاقي الصعداء وخرجنا ونحن نتنفس، ولكن غيرنا خرج منها جثث هامدة، حوالي 18 طالب وطالبة انقلبت حافلتهم وهم في طريقهم، تلقينا الخبر بعد أيام من عودتنا وكان وقعه كالصاعقة، فقد عايشوا ما عايشت، وكانت بداخلهم ذات الحماسة، ولكن لم يسعفهم القدر ليعيشوا ذات المغامرة، فوطنهم يحتل أعلى المراتب في حوادث الطرق، ويحارب الإرهاب بالتهجير والتفجير وإخلاء سيناء أكثر فأكثر ومحاربة أي محاولة للتطوير والتعمير والبناء!

يحاولون بشتى الطرق تنفيرنا من زيارة هذه البقعة من وطننا "سيناء"، ومع ذلك يذهب الشباب بالمئات؛ لأنهم يعلمون من وراء الإرهاب ومن يحركه ومن يريد استمراره!

وطائرات وطنهم!
طائرات وطنهم لا تغادر قواعدها إلا لقصف بيوت الأبرياء في سيناء، أو لإسعاف مواطني الدرجة الأولى، فلم تتحرك من قبل لإخوتنا فوق الجبل حين تجمدوا واستغاثوا ولم يجبهم أحد، أستطيع تخيل ما حصل لشباب تلك الحافلة هذه المرة، انقلبت الحافلة في طريق صخري وبالتأكيد اختلفت نوعية الإصابات عن الحوادث العادية، حسبما رأيت فالأماكن المأهولة هناك محدودة جدًّا، وبالتأكيد المستشفيات كذلك، بالطبع استغرق إسعافهم وقتًا كبيرًا مما ضاعف عدد الوفيات، فضلًا عن إمكانيات المستشفيات.
 

أكتب كلماتي الآن وسط أنباء عن إخلاء جامعة الإسكندرية مسؤوليتها من الرحلة، وعزم نقل الطلاب المصابين إلى خارج سيناء بالسيارات، وسط غياب تام لأي تدخل حكومي، فلا حديث لمسؤول ولا خطوات جادة لمعالجة المصابين، بل تسيب واستهتار بالأرواح، حالات بهذه الخطورة تحتاج إلى تدخل سريع بطائرات مجهزة لنقل المصابين على الفور، لكن من نناشد؟! من هانت عليه الأرواح مرة ستهون ألف مرة، والشواهد والمصائب خير دليل!
 

طرق الموت تصلح للدبابات فحسب ولا تصلح لحافلاتنا، فنحن غير مرحب بنا هنا، يحاولون بشتى الطرق تنفيرنا من زيارة هذه البقعة من وطننا، ومع ذلك يذهب الشباب بالمئات؛ لأنهم يعلمون من وراء الإرهاب ومن يحركه ومن يريد استمراره! يحركه من لا يمهد الطرق ويترك شبابنا يموت بين الجبال بدلًا من تسلقها والاستمتاع بالمشاهد الخلابة من فوقها. طرقت أبوابها مرة وعانيت الأمرّين، ولكنني سأعود مرة أخرى، وسيعود الآلاف معي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.