شعار قسم مدونات

لماذا لا يسمعنا الناس؟

president
شاهدت بالأمس مناظرة قديمة بين الدكتور عبد الوهاب المسيري وسيد القمني في برنامج الاتجاه المعاكس. وسيد القمني، لمن لم يبتليه الله بقراءة كتاباته، شخص له كتابات سطحية الفكر بشكل رهيب، فقيرة في العلم والتاريخ، كتب عدة مقالات تخوض في الإسلام وعقيدته فاشتهر بين "المثقفين" ونال جائزة الدولة التقديرية، ثم سُحبت منه بعد ذلك… أما المسيري، فهو بالطبع غني عن التعريف.
 

تجهزت لمشاهدة المناظرة بحماسة طفل صغير يشاهد بطله الأسطوري وهو يسحق أعدائه ويكيل لهم اللكمات يمنة ويسرى، وقد كان ما توقعت. فحين يتكلم القمني، ويظن بأنه أتى بالحجج القوية، تأتي مداخلة المسيري، فيرفعك أميالًا فوق سطح الأرض لترى فلسفة العلمانية ونشأتها وأثرها على المجتمعات حين تتراكم لأجيال، ترى تجرد الفكرة حين تبتعد عن ضوضاء التفاصيل فتتضح أمامك الصورة مبهمة.
 

قد نرى مفكرين عباقرة ضاع ذكرهم وأثرهم لأنه لم يكن لهم من يبسّط أفكارهم إلى كلام في سياق الواقع الملموس، أو ما يسميه الناس "كلام عملي"، فلم تتحرك كتبهم من على أرفف المكتبات.

ولكن عند نهاية الحوار، انتبهت إلى شيء، انتبهت إلى أن كثيرًا من الناس قد لا يرى ما رأيتُ من حوار المسيري، بحكم تمرّسي على أفكاره لا بحكم ذكائي الخارق مثلًا! فانتبهت أنه في حين كان القمني يتحدث عن الاستبداد السياسي والفساد الإداري والحروب الطائفية في بلادنا، ويُقدم العلمانية كحل فوري لتلك المشاكل، كان المسيري يتحدث عن الأيدلوجيا وعن "تشيؤ" الإنسان في الحضارة المادية العلمانية، وعن تعريفات العلمانية، والعلمانية الجزئية، والشاملة. وفي حين ازدادت قناعاتي عن فشل العلمانية كفكرة لتحقيق خلاص الإنسان، أكاد أجزم أن كثيرًا من الناس البسطاء أمثالي، وحتى غير البسطاء، قد لا يرون ما رأيت.
 

كان القمني مباشرًا في كلامه لما يلمسه الناس في حياتهم، ذكّرهم بالفساد، ونكأ جراح الاستبداد في أجسادهم الجائعة، ثم قدم لهم حلًا سحريًا يزيل تلك الآلام. لن يفكر المتلقي، اليائس غالبًا، كثيرًا في نجاعة هذا الحل من عدمه! لن يفكر في عواقب الأيدلوجيا في تشكيل وعي المجتمع أو كيف سيصبح حال أحفاد أحفاده بعد عشرات الأعوام من الآن. ببساطة يمكنك القول أن خطاب القمني، الذي يمكن أن يقول مثله آلاف البشر، قد كسب أتباعًا أكثر في تلك المناظرة، للأسف!
 

مخاطبة الناس بما يتألمون به وبما يشعرون به "هنا والآن" هو غالبًا ما يدفعهم للقيام والتحرك، ولذلك قد يؤثر فيهم السياسي أكثر من الفيلسوف، وقد يؤثر فيهم الإعلامي أكثر من السياسي. ولذلك قد نرى نماذج لسياسيين قد يكونوا صالحين ولكن لم يمتلكوا زمام الإعلام فخرج عليهم الناس وهُزموا، وقد نرى مفكرين عباقرة ضاع ذكرهم وأثرهم لأنه لم يكن لهم من يبسّط أفكارهم إلى كلام في سياق الواقع الملموس، أو ما يسميه الناس "كلام عملي"، فلم تتحرك كتبهم من على أرفف المكتبات. لذلك فأي معركة فكرية يجب أن تكون الأسلحة فيها على مستوى تلك المعركة، ليس أعلى أو أقل، ثم تأتي بعد ذلك فاعلية تلك الأسلحة بقوتها المنطقية الكامنة فيها، ثم بحسن صياغة الأفكار والخطاب.
 

والحقيقة أن الأفكار المجردة التي تراعي التاريخ والزمن وتطور البشر ومآلات النظرية هي أصل الأفعال العملية الفعّالة البانية للحضارات. ولذلك يجب على المفكر أن ينتهج أحد أمرين لضمان نجاح أفكاره: إمّا ألّا ينقطع عن تمرين نفسه المستمر على الخطاب الشعبي بين الحين والآخر، فيكون في عملية مستمرة لإيجاد وتهذيب وصياغة تلك الرابطة المهمة بين النظرية وبين ما يشعر به الناس. أو أن يجد له تلاميذ يقومون بهذا العمل نيابة عنه، وفي الاختيار الثاني لا يجب أن يتصدر هو لخطاب خارج حدود خطابه المهيمن عليه.
 

لذلك فتغيير المجتمعات يجب أن يتم بإيجاد تلك الأفكار المجردة على يد المفكرين، ثم يأتي كتّاب وخطباء وشعراء (وإعلاميون) يسقطون تلك المفاهيم على الواقع بأساليب متعددة، ويبسّطون تلك المفاهيم للناس ويروّجون لها، فيرى الناس كيف ستحل النظرية ما يتألمون به في حياتهم اليومية. كيف ستحل الغلاء والبطالة والاستبداد وغيره، في هذه اللحظة يقوم الناس ويصبحون قوة فعالة على الأرض. ولكن الخطأ كل الخطأ في الوقوف هنا، وأن يُصبح تحرك الناس وثورتهم في حد ذاته غاية. ومن هذا الوهم بالنصر دائمًا ما تأتي الانتكاسات، حين يتعثر النظام الجديد بالوفاء بعهود إصلاحاته المادية الآنية، وهو الأمر الطبيعي في أي تحول اجتماعي كبير، فيرتبط في ذهن الناس بشكل تلقائي فشل التطبيق بفشل النظرية ذاتها.
 

والمتأمل لحياة الرسول ﷺ، يراه تارة وهو يعد أصحابه بما يمس حياتهم المادية الحياتية في قوله أثناء غزوة الأحزاب "الله أكبر، قصور الشام ورب الكعبة". ويراه تارة وهو يردّ هذه المنجزات الأرضية إلى إيمان غيبي أعلى ليؤمن أصحابه بالإسلام إيمانا عقديا،  وهو يتلو قول الله "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ".

ولكن يجب العمل على النصف الآخر من الطريق، المنسي غالبًا، وهو ردّ الشعب إلى النظرية في طريق مواز للطريق الأول، فلابد حينها من رفع وعي الناس واقتناعهم بالنظرية ذاتها، وليس بما تعد به! وتلك أيضًا مهمة وسطاء الأفكار بخطابهم المُقنع للناس. ويتجلّى ربط الناس بالنظرية بترفّع الناس عن احتياجاتهم الآنية (هنا والآن) في سبيل المصلحة العليا للمجتمع، ذلك الترفّع الذي يرفض به الموظف أن يقبل رشوة، أو أن يعقد صفقات تهدر المال العام، لأنه يرى أن مصلحة المجتمع ككل أهم من مصلحته الشخصية. ذلك الربط الذي يستطيع أن يستشرف به الفرد البسيط مستقبل أمته كما يراها الفيلسوف المفكر الذي يرى مآل نظريته بعد أجيال. وذلك الربط هو ما قامت به حضارات كثيرة ضحّى أبناءها بمصلحته الشخصية الآنية في سبيل مصلحة مستقبلية عليا، كألمانيا واليابان ما بعد الحرب. أو كتأسيس أكثر الحضارات إنسانية وقيمية في تاريخ البشرية، وهي دولة الرسول ﷺ والخلافة الراشدة.
 

والمتأمل لحياة الرسول ﷺ، يراه تارة وهو يعد أصحابه بما يمس حياتهم المادية الحياتية في قوله أثناء غزوة الأحزاب "الله أكبر، قصور الشام ورب الكعبة"، "الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة"، أو قوله "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون". ويراه تارة وهو يردّ هذه المنجزات الأرضية إلى إيمان غيبي أعلى ليؤمن أصحابه بالإسلام إيمانا عقديا، وليس نفعيا فرديا ماديا متعجّلا، وهو يتلو قول الله "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ"، أو يبين لهم أم أن رضوان الله هو أكبر الأجر وهو الفوز العظيم "وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ".
 

لو راعينا هذه العلاقة المزدوجة بين خطاب المفكّر والشعب في الاتجاهين، سنجد في طريقها الأول قيام ثورات الربيع العربي، وفي فقدان طريقها الثاني المنسي فشل تلك الثورات في بلادنا. وسنرى نجاح دونالد ترامب واليمين المتطرف في أوروبا، نجاح هش مبني على خطاب أرضي نفعي يخاطب مشاكل آنية ويعد بحلها هنا والآن، والذي سيسقط آجلًا أو عاجلًا لفقده أي نظرية ذات رؤية لمستقبل أجيال. ولن نجد بُدًا من تقديم نشر الوعي على أيّة مكاسب سياسية فورية، تلك المكاسب قصيرة الأمد التي لا تترك لنا إلا طول المسافة بين الناس وبين أفكارنا.

زرع الإيمان بالفكرة يحتاج وقتًا وجهدًا ورؤية، بينما استثارة رد الفعل لا يحتاج إلا بوقًا. رحم الله المسيري، ورحم الله كل من يدعو إلى سبيله على بصيرة هو ومن اتبعه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.