شعار قسم مدونات

كوبر.. ليلة النهائي أسوأ كوابيسك

BLOGS- كوبر

"سيناريو خيالي"
ليلة السابع فبراير 2008، تقترب الساعة من منتصف الليل بتوقيت العاصمة الغانية أكرا، في غرفة مغلقة يتوسطها مكتب متواضع عليه الكثير من الأوراق المبعثرة، يجلس عليه المدير الفني للمنتخب المصري حسن شحاتة وتبدو عليه علامات والاضطراب والقلق الشديدين؛ تعابير وجهه منقبضة ولا يشعر بالارتياح على غير عادته، فينوي أن يصلي ركعتين بعد أن يقرّ خطة موقعة الغد. غدًا ليس يومًا عاديًا، غدًا مباراة نصف النهائي في بطولة أمم أفريقيا أمام منتخب أفيال ساحل العاج.
 

قبل البطولة كانت تشير كل الترشيحات إلى أن منتخب ساحل العاج هو أبرز المرشحين لحصد اللقب. يزيد الطين بلة أن المنتخب الإيفواري يريد الانتقام لليلة فبراير عام 2006 عندما خسر اللقب في القاهرة. يأخذ شحاتة ورقة بعشوائية من على المكتب ليجدها ورقة تحمل قائمة المنتخب الإيفواري، فيتأكد أن الأمر مرعبٌ حقًا؛ دروجبا، ويايا توريه، وكولو توريه، وعبدالقادر كيتا وديدييه زوكورا وسالمون كالو.. يا ساتر.
 

قتل كوبر كل فرص المتعة في لعبة كرة القدم بشكل لا يطاق ونزع كل الجوانب والنزعات الإنسانية من اللاعبين قدر المستطاع فيحولهم إلى قطع شطرنج بائسة تنتظر أوامره.

بعدما ينتهي من قراءة القائمة مرة أخرى، يصبح كل ما يدور في ذهن المدرب الأسطوري للفراعنة هو غلق المساحات في الأطراف أمام عبدالقادر كيتا وباكاري كوني وأن يراقب وائل جمعة دروجبا كظله مع خنق وسط ملعبهم والدعاء ثم الدعاء ثم الدعاء بأن تذهب المباراة إلى ركلات الترجيح وحينها يصبح لكل حادث حديث.
 

لكن، يتذكر شحاتة فجأة "الحفلة" التي أقامها المنتخب المصري على المنتخب الكاميروني العفيَ في المباراة الافتتاحية برباعية مع الرأفة، حيث قدم المنتخب المصري درسًا لا ينسى في فنون كرة القدم، دفاعًا وهجومًا. كانت مباراة للتاريخ لعب فيها المنتخب المصري كرة قدم سلسة، مريحة للعين وتسر الناظرين. تكاد رأس الرجل تنفجر من كثرة التفكير، ماذا عليه أن يفعل، أن يضحي بمبادئه من أجل النتيجة؟ يقرر التوقف ويذهب ليصلي ركعتين كما نوى ليدعو ربه بالتوفيق والسداد.
 

يدخل شحاتة إلى المحاضرة الفنية وعلى وجهه علامات الارتياح وينظر في أعين اللاعبين لاعبًا لاعب، ثم تتلبسه روح الراحل العظيم يوهان كرويف فيقول لهم "لن ألعب كرة قدم دفاعية لكي أذهب إلى النهائي، لن أجلس لمدة مائة وثمانين دقيقة هي المتبقية لنا هنا أشاهد مباريات سيئة مملة من أجل أن أحصد لقب قد فزت به من قبل، وإذا خسرته أكون قد أضعت على نفسي مائة وثمانون دقيقة دون داع" لن نغير الشيء الكثير، سنلعب كرة القدم التي اعتدنا عليها وسنفوز. وبالفعل يفوز المنتخب المصري بأربعة أهداف مقابل هدف واحد في مباراة لا تنسى على كل المستويات للمنتخب المصري.

(2)
"خدعة كوبر"
ليلة السادس من فبراير 2017، تنتهي بحزن على المنتخب المصري. خسرت مصر في النهائي أمام الكاميرون بهدفين لهدف. مصر التي قادها الأرجنتيني هيكتور كوبر أضاعت لقبًا سهلًا يُضاف إلى خزائنها. قرر الرجل الدفاع والانكماش لمدة خمس وأربعين دقيقة أمام منتخب سلم له نفسه في الخمسة وأربعون دقيقة الأولى، ليعطي الكاميرون لقبها الافريقي الخامس.
 

قد يبدو الأمر مقبولًا ومرضيًا للغاية للوهلة الأولى، إذ أن هذا جيل جديد يتم بناؤه حاليًا، ذهب إلى الجابون دون أية تطلعات أو أحلام بل يكفيه الوصول بعد غياب دام ثلاث دورات متتالية. ثم فجأة وصل تحت قيادة المخضرم كوبر إلى النهائي وفي وسط المعمعة حطم عقدة المغرب المستعصية. إذًا لا داعي للسخط والغضب أو الحزن ويجب على المصريين أن يفتخروا بما وصل إليه منتخب بلادهم وأن يدعموا كوبر بكل الوسائل والسبل.
 

لكن الحقيقة، أن هذه هي "خدعة كوبر"، حيث سوق لنا الرجل أن هذه هي إمكانيات المنتخب المصري وأن هذا هو أبعد نقطة يمكن أن نصل إليها، فقام الرجل بخفض سقف توقعاتنا كلنا منذ وطأت قدماه أرض القاهرة، إذ أقنع الرجل كل رجال الكرة في مصر أن هذا الجيل المصري الحالي متوسط المستوى ولا يرقى إلى لعب كرة قدم طبيعية تتمتع بأن لها شقين هجومي ودفاعي كما يلعبها باقي البشر، بل يجب علينا إذا كنّا نريد الوصول إلى كأس العالم أن نلعب كرة قدم مملة لها شق دفاعي فقط يلتحم فيها خط بخط الدفاع ولا دور هجوميّ للأظهرة فيها ويقوم فيها رأس الحربة بالدفاع من أمام منطقة جزاء فريقه مباشرة، ويرفض الفريق لعب الكرة، حتى يخرج أحد لاعبي منتخب بوركينا فاسو بعد المباراة يتساءل عن نوع الرياضة التي كانت تلعبها مصر في الدور نصف النهائي!
 

مصيبة "خدعة كوبر" أنها تقول لنا أن نكذّب أعيننا ونمحي ذاكرتنا ونلغي عقولنا، فصلاح نجم روما الإيطالي ليس سوى عداء ماهر تُرمى له الكرات خلف المدافعين، وتريزيجيه يجب عليه أن يساند أحمد فتحي في الجبهة اليسرى، ثم يأخذ الكرة ويركض بها حتى منطقة جزاء الخصم ثم يقوم بالعرضية، وعبدالله السعيد الذي لا يعرف كيف يركض هو أفضل صانع ألعاب في العالم، ورمضان صبحي الذي حمل النادي الأهلي على كتفيه وهو دون العشرين لا يتعدى كونه بديل جيد أو أن كل لاعبي خط الوسط المصريين الذين خلقهم ربهم لا يساوون شيئًا في روعة إبراهيم صلاح المُنتهي كرويًا منذ سنتين أو أكثر أو عمرو وردة صاحب الجسد النحيل سيستطيع مجاراة أسود الكاميرون.
 

الجزء الأسوأ فيما يقوم به كوبر، هو أنه بينما يقوم "بركن الأوتوبيس" أمام فريق الكاميرون "الرديف"، يتذكر الشعب المصري كله ماذا فعل المنتخب المصري في منتخب الكاميرون وساحل العاج والجزائر وغانا، وتتذكر أفريقيا كلها جودة ونوعية كرة القدم الفريدة من نوعها التي لعبتها مصر في ثلاث بطولات لم يتأثر فيها المنتخب بغياب أي اسم مهما كان ثقله.
 

كرة القدم ليست صراع ديكة أو شطرنج لننتظر النتيجة في النهاية ثم نحصد أموال رهاناتنا أو نعاير الطرف الخاسر، بل إنها عملية مستمرة لتوليد المتعة في كل تفصيلة صغيرةز

مصيبة كوبر الأخرى، أن كرة القدم لا تحبّه. كرة القدم وسيلة تسلية وإلهاء ومتعة. فلا يمكن أن نخترع كرة القدم من أجل المتعة ثم نقتلها نحن بأيدينا تحت مسميات مثل "الواقعية"، "الجرينتا" أو "التكتيك". وهذا ما يقوم به كوبر تحديدًا؛ قتل كل فرص المتعة في اللعبة بشكل لا يطاق ونزع كل الجوانب والنزعات الإنسانية من اللاعبين قدر المستطاع فيحولهم إلى قطع شطرنج بائسة تنتظر أوامره.
 

كيف يمكن لشخص يفعل كل هذا أن يفوز في النهاية؟ كيف يمكن لأي شخص أن ينتصر أن يصبح رابحًا في شيء يعادي جوهره؟
كرة القدم ليست صراع ديكة أو شطرنج لننتظر النتيجة في النهاية ثم نحصد أموال رهاناتنا أو نعاير الطرف الخاسر، بل إنها عملية مستمرة لتوليد المتعة في كل تفصيلة صغيرة، هذه المتعة ليست في الهجوم الأهوج الطائش وليست في الدفاع الرافض للعب الكرة أيضًا، بل هي في خلق فلسفة خاصة تتناسب مع فكرة الكرة ذاتها ولا تحصر نفسها في الركض وراء النتيجة، النتيجة التي ستتحول بعد ذلك إلى غولٍ يأكل اللعبة بأسرها.
 

ولأن كوبر يفعل كل ما سبق تقريبًا ستبقى ليلة النهائي هي أسوأ كوابيسه ولن تضحك له الكرة وستستمر في معاقبته بهذا الشكل القاسي بينما تبقى ليلة النهائي عند حسن شحاتة هي أجمل أحلامه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.