شعار قسم مدونات

كتاباتنا الاعتيادية.. استحياء القلم وظلم الورقة

كتابة
"لم أستطع قراءة هذه الحروف، لم أفهم ماذا يكتب هذا التلميذ؟ لم أميز بين كلماته المتداخلة، ولم أقدر على بيان حروفه الرديئة، حقيقة ذهبت نقطته في الامتحان بسبب خطه وكتابته غير المفهومة، لقد حاولت دون جدوى…" هكذا علق أحد أصدقائي من رجال التعليم على قلقه اليومي من خط تلاميذه المريض، وكتابتهم الاعتيادية المتنافية مع الجمال والوضوح حتى يستطيع مجاراة الكلمات.

يتحدث بشوق حول تلك الأيام الماضية من عمر الزمن الجميل للمدرسة العمومية، ويحكي عن علاقته الغرامية مع الريشة والمداد، و يصف لي جلوسه على كرسي الطاولة بالفصل الدراسي وكأنه في مكتب فخم لاتخاذ القرارات الحاسمة، يستطرد في الحديث بصوت رخيم تختزن نبراته حزنا دفينا على حال الخط اليدوي لفلذات أكبادنا في عصر الشبكة العنكبوتية فيقول:" كنت أمسك الريشة بأناملي فأشعر بالقشعريرة، وعندما أغمرها في المحبرة ينتابني إحساس بتلهف الورقة المسطرة لاستقبال جرةُ قلمي المنساب على سطح أبيض، مُعلنة عن فرح بحروفي الجميلة وكتابتي المُنمَّقة، خط جميل وأفتخر" ، ويضيف قائلا هذه المرة بوجه عبوس:" أُقلب دفاتر تلاميذي و أصحح امتحاناتهم الدورية، فتتجدد حسرتي على أيام الريشة والمحبرة".
 

يصب الأستاذ جم غضبه عليه مطالبا له بالقراءة بصوت واضح، يقر التلميذ أخيرا بعجزه عن القراءة، يسأله الأستاذ بتهكم عن عدم قدرة لسانه عن فك شفرة ما كتبه بيده.

إنه قلق يومي كما يصف، مضيفا بتأثر:"يعاني منه رجال التعليم والتربية في زماننا ، يستدعي تجندا من كافة المتدخلين في العملية التعليمية خاصة في مراحلها الأولية". مشكلة حقيقية فعلا تُنذِر بجَيل لن نستطيع قراءة خطه في المستقبل، مثلما عجَزنا عن فهم تقلباته اليوم، خطٌ متمائل، وحروف مشوهة تستنكر الهجمات العدوانية التي تتلقاها على أرض مسطحة بيضاء مكسوة بسطور مكسرة! فما السبيل إلى تجاوز هذه الأزمة؟

كان جواب صديقي المعلم، بأن المفتاح يكمن بيد المعلم نفسُه، كلما تحسَّن خط أساتذتنا، سيتحسن خط تلامذة القرن الواحد والعشرين، ويحكي ضاحكا متهكما فيقول:"اتصل بي أحد المدراء لتلقين دروس في الخط وتجويد الكتابة الاعتيادية لطاقم من المعلمين، فاستغربت من الطلب، وكان ردي ببساطة، أن الأطفال هم في أمس الحاجة من معلميهم، فجاء الجواب الحاسم: "الأطفال مقلدون بارعون.. سيتحسن خطهم عند تحسن كتابة معلميهم"، يقهقه بتهكم ويضرب يديه حسرة على هذا المشهد. فعلا إنه مربط الفرس، رسم الحروف وتشكيلها وفق قياسات محددة على دفاتر البارحة، كان محاكاة بارعة لجيلنا للكتابة المكررة على سبورة القسم الدراسي. 
 

رجعت بي الذاكرة إلى أيام الدراسة بالثانوية عندما طلب منا أستاذ التربية الإسلامية كتابة النص القرآني على الدفتر مع احترام شكل الرسم العثماني الذي يميز المصاحف المغربية، وكان واجبا مستعصيا على غالبية التلاميذ بالفصل، لم تتعود أناملهم على خط الحروف، فإذا بها تعجز عن رسمها، حاولنا جميعا إنجاز المطلوب طبعا بتفاوت كبير بين رسم المقرر وتقليدنا الممسوخ على الدفتر، والمفاجأة، طلب الأستاذ قراءة النص القرآني من الورقة التي حاولنا كتابتها، نادى بصوته المتحشرج على أحد التلاميذ المُقَنْزع رأسُه، وأمره بالانطلاق في تلاوة النص المكتوب (المرسوم)، فتمتم بصوت هامس وتردد في القراءة، الأستاذ ينتظر وعيناه جاحظتان فيسترسل التلميذ في التمتمة مجددا، يصب الأستاذ جم غضبه عليه مطالبا له بالقراءة بصوت واضح، يقر التلميذ أخيرا بعجزه عن القراءة، يسأله الأستاذ بتهكم عن عدم قدرة لسانه عن فك شفرة ما كتبه بيده، جاء الجواب بخجل كونه كتب النص تحت جنحة الظلام عندما انقطع التيار الكهربائي بالمنزل! فرد عليه الأستاذ متهكما:" لو حل الظلام الآن لتمكنت من القراءة".

قال الإمام علي رضي الله عنه: "أكرموا أولادكم بالكتابة، فإن الكتابة من أهم الأمور ومن أعظم السرور وأن حُسن الخط يزيد الحق وضوحاً".

انتبه المعلم أخيرا إلى معضلة أكبر، التلاميذ غير قادرين على تجويد الكتابة، فقام بإعداد كراسة خط للتلاميذ يشرح لهم فيها الكتابة بالرسم العثماني، ثم ساعدهم بعد ذلك علي الكتابة الاعتيادية بنفس الأسلوب، ولكن بالقلم الرصاص أو الحبر أو الأقلام المختلفة الأخرى، رغبة منه في أن يكون طابع الكتابة الاعتيادية في يد الطالب علي النحو المرضي في الكتابة الخطية المجودة.

فهل أحسستم معي بإشكالية خطنا المسكين المستغيث؟ هل شعرتم بقشعريرة البرد القارس التي جمدت أصابعنا حتى عجزت عن كتابة جلية مقروءة؟ هل فكرتم بجدية في ولوج ورشة للتعلم لاستدراك ما مات من زمان في خطنا اليومي؟ هل استحيا القلم من أوراق الدفتر؟ الهدف مباشرة هو تحسين الكتابة الاعتيادية؛ لأن التجويد بالأقلام المقطوطة والسير علي القاعدة كاملا، لا يتوفر لسائر الناس، وهذا ما يتطلب منا التعاون لمواجهة الواقع المر لكتاباتنا الاعتيادية، والوصول بها بأقصر طريق وبأسهل وسيلة وفي وقت معقول لبر الأمان بالتحسين والتجويد.

الجواب بأيدينا، خط كتابتنا علامة شخصيتنا و ركيزة مستقبلنا في أوطاننا، خطنا اليوم هو مرآتنا إذا، فالجمال في حسن المظهر وقيمة الجوهر. قال الإمام علي رضي الله عنه: "أكرموا أولادكم بالكتابة، فإن الكتابة من أهم الأمور ومن أعظم السرور وأن حُسن الخط يزيد الحق وضوحاً".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.