شعار قسم مدونات

جورج طرابيشي الآليات الداخلية لأفول العقل العربي

blogs - قرآن بالأجنبي

تضخم البنية الحديثية:

إن تضخم البنية الحديثية وانتصار أهل الحديث إبستومولوجيّاً على يد الشافعي، وسياسيا على يد المتوكل، هو السبب الأول وراء تغييب العقل بالنسبة للطرابيشي، وتقليص دوره وفاعليته كونه غدا مع أهل الحديث مزموما، بل ليس هناك مزموما في تاريخ هذه المدرسة مثله، وبهذا يضع الطرابيشي يده على بداية الردة في التاريخ الإسلامي، ويتتبع الطرابيشي هذه البداية حتى يصل إلى الإمام الشافعي ويفكك ما قام ببنائه، وليكشف قدرا كبيراً من التلفيق والاجتزاء في عملية تقنين السنة، وجعل كل منطوق للنبي صلى الله عليه وسلم وحيا لا يأتيه الباطل، بل يتجاوز الطرابيشي الشافعي ولوجا إلى القرآن (الخطاب التأسيسي) ليحدد المشرع والمشرع له، ليفك الوثاق بين القرآن والسنة الذي أدى إلى تضخم المدونة الحديثية ومن ثم إلى انسداده وأفوله، وكل ذلك في معرض نقد النقد.

الإمام الشافعي المرادفة بين الحكمة والسنة:

يرى الطرابيشي أن الشافعي أول من كرس لمعيارية اللغة العربية في فهم الكتاب، لكنه كما يقول الطرابيشي فك الارتباط بهذه المعيارية عند مطابقته بين لفظة "الحكمة" و"السنة" فعند هذه المطابقة يضيع الشرط الشارط وهو معيار اللغة، فكلمة الحكمة ترد في القرآن الكريم، إحدى وثلاثين مرة، ولكن الشافعي لا يستقرئها كلها، إنما يستقرئ منها سبع آيات فقط، ويلبسها لباس "السنة" ويجعلها تقوم مقامها، ويفرد الشافعي باباً كاملاً لإقناع القارئ أن الحكمة هي السنة أسماه "بيان فرض الله في كتابه اتباع سنة رسوله" ليستقرئ الشافعي في هذا الباب الآيات السبع التي اختارها من بين إحدى وثلاثين آية، ويعلق عليها قائلا: " فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله " فيذكر الطرابيشي أن من ارتضاه الشافعي من أهل العلم بالقرآن ليس هو كذلك، إنما هو من أهل الحديث وهو ابن جريح ومعه قتادة، فهما فقط من يقولان بهذا، ولكن الشافعي أخذها من ابن جريح لاستشهاده به في مواضع كثيرة في كتابه الرسالة.

ويمضي الطرابيشي في حفره ليجد أن الآيات التي ذكرت الكتاب والحكمة ليس فيها ما يدل على أن الحكمة هي السنة، وذلك من خلال معيار الشافعي وهو اللغة العربية، حيث السنة في لسان العرب تعني "الطريقة" بل إن السنة التي يذكرها القرآن تكون مقرونة بلفظ الله ومضافة إليه، وحتى حين ترد مضافة إلى الأولين "كسنة الأولين" ترد كمفعول بهم وليسوا كفاعلين أي أن الله هو الفاعل لهذه السنة.

استمرت الرواية حتى أصبحت بعده مدونة ضخمة لها أساطينها ورجالها، وأدى هذا التضخم إلى غياب تام للعقل وأفول للقرآن عن مركزيته كنص تأسيسي.

إن تقويض هذا المسلك الذي سلكه الشافعي في الرسالة لا يفك الارتباط الذي هو بمثابة الأزلي بين الكتاب والسنة فقط، إنما يقوض مركزية كتاب الرسالة كمشروع للتأسيس لحجية السنة كمقابل ومعادل موضوعي للكتاب إذا استلفنا مصطلح الحاج حمد، وفي حقيقة الأمر إن ما فعله الشافعي سابقة معرفية تماماً كما يقول الطرابيشي، حيث قام بإلغاء المسافة الفاصلة بين القرآن والسنة وخلق تماهيا وتلازما بينهما، فالقرآن وحي يتلى والسنة وحي لكن لا يتلى.

إن الطرابيشي لا يتحدث عن الشافعي كأول من يعتقد بثنائية القرآن والسنة، إنما يتحدث عنه كمؤسس لذلك فقهيا ومعرفيا، إذ أن الكثيرين من أهل الحديث قبله كانوا يرادفون بين السنة والقرآن، بل بعضهم كالأوزاعي مثلاً، يجعل السنة قاضية على الكتاب وحاكمة عليه، ولكن الشافعي هو الذي فتح الباب على مصراعيه، لجعله القرآن والسنة وحيا واحداً، وكل ما يصدر عن النبي وحيا ليغلق بعد هذا الشافعيُّ الباب أمام الرأي والعقل، فغدا النص هو المحرك للإنسان المسلم، مما جعله يغدو كآلة ميكانيكية، إذ أن الشافعي لم يؤسس فقط لصنمية النص، إنما حارب أيضاً أهل الرأي والكلام، يقول الشافعي: "رأيي في أهل الكلام أن يضربوا بالنعل ويطاف بهم بين القبائل" وبهذا غدا العقل المسلم ثابتاً لا يتحرك، فالمدونة الحديثية حوت له كل ما يتعلق بحياته من كيفية أكل وشرب حتى كيفية المجامعة والضحك، فأفول العقل العربي عند الطرابيشي بدأ بتصنيم النص، وعلى حد قوله: "من اعتاد رضاعة النص يصعب فطمه" فحتى الآن لم يستطع الإنسان المسلم الفطام عن النص، بل أن يجد نصا خير له من أن يُدعى إلى بذل جهد عقلي أو معرفي، حيث أن كل مشكلة تعترضه له فيها حل منجز مسبقاً داخل النص.

إن الشافعي بوضعه كتاب الرسالة، كان حاله يقول إن الحديث بالسنة وترديد الأحاديث ليس كالتأسيس الإبستومولوجي لها، فالتأسيس هو الذي يضمن استمرارية التحديث، وبالفعل استمرت الرواية حتى أصبحت بعده مدونة ضخمة لها أساطينها ورجالها، وأدى هذا التضخم إلى غياب تام للعقل وأفول للقرآن عن مركزيته كنص تأسيسي، فالدخول إليه غدا يقتضي الدخول في غابة من الروايات والمتون والأحاديث.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.