شعار قسم مدونات

القبيلة والسلطة في السودان (2)

blogs - علم سودان
لقد رأينا في مقال سابق كيف أحدثت الحركة الصوفية في السودان نقطة العبور من التركيب الاجتماعي والسياسي القائم على القبيلة والعرق إلى التركيب المتجاوز لتلك العلاقات، إلا أن هناك تساؤل مهم هو كيف أسست الصوفية رابطة اجتماعية متجاوز للقبيلة؟ ولماذا فشلت الحركة الصوفية في صنع وحدة حضارية قومية حديثة في السودان؟ للإجابة نقول: يرجع ذلك إلى منطقة اشتغال التصوف داخل البنية الاجتماعية السودانية وطبيعتها، وكذلك منطق الحركة الصوفية الذي يعتمد على الفرد ومقدرته على الانعزال دون الاهتمام بإصلاح المجتمع ومؤسساته.

قبل ذلك فالإسلام والتصوف وجد بنية اجتماعية في السودان لها قوتها وسلطتها ونفوذها ومؤسساتها الراسخة منذ القدم. فكان يجب على النسق الإسلامي الجديد أن يحدث اختراقا في النسق السوداني الموجود. وبالفعل أحدث اختراق عبر تفكيك لتلك البينة وصاحب ذلك تغيير في عديد من المفاهيم. أهم خطوات التغيير ذلك كانت عبر عملية فصل وتوزيع للسلطات داخل البنية الاجتماعية التي كانت تجتمع فيها السلطات بمختلف أنواعها عند مجموعة أو شخص واحد دون الآخرين، ونقصد بالسلطات هي السلطة السياسية والدينية أو الروحانية، فلقد اجتمعت السلطتان طول تاريخ السودان حتى دخول الإسلام إلى السودان ويرجع ذلك إلى ثقافة الإنسان السوداني الأفريقية التي تجمع السلطة السياسية والروحية في شخص أو مجموعة واحدة، ونقصد بذلك لم تنشأ السلطة الروحية كمؤسسة مستقلة تستمد قوتها من ذاتها بل كانت وليدة الثقافة والعادات العامة التي يتشارك فيها جميع أفراد المجموعة. ولكن هذه الوحدة انهارت مع دخول العرب إلى السودان وتوسع نفوذهم وانتشار ثقافتهم بين سكان السودان عبر الاستيعاب. لأن الثقافة العربية تتميز بفصلها بين الزعامة أو السلطة الدينية والسياسية، فزعيم القبيلة يختار عبر امتيازات أخرى يمكن أن نسميها امتيازات دنوية مثل المال والشجاعة والكرم والقوى والنسب.

وبالرغم من هذه الصفات شرطاً لتنصيب زعيم القبيلة في الثقافات الأفريقية والثقافات الأخرى. إلا أن القوى الروحية هي الشرط الحاسم للتنصيب عند معظم الشعوب الأفريقية. إذن أحدثت الثقافة الجديدة ونقصد بها العربية نقطة تحول في شكل السلطات وظهر نوع جديد من الزعامات تم تجريدها من السلطة الروحية وأوكلت للشيخ أو الفقيه. وكان هذا الفصل تأثيراً بالغا على السودانيين، لقد فقد المجتمع القوي المنوط بها صنع مسار وترشيد سلوك السلطة السياسية وبالخصوص دورها كوسيط بين أفراد المجموعة الواحدة مع بعض والسلطة كمؤسسة. إذ إنها أسست لنفسها حضارة ووضعت قوانين حافظت على وحدة وسلامة المجموعات، ويظهر آثار هذا الانفصال في الوضع العام السوداني في القرن الخامس عشر، فكان في حالة من الحرب والتنافس مستمر داخل المجموعة الواحدة التي تجمعها الثقافة والدين، ونقصد بذلك الحروب داخل المملكة السنارية وحلفائها من القبائل.

مع التصوف في السودان ظهرت السلطة الروحية من جديد ولكن بشكل حديث لقد فصلت منها السلطة السياسية ولم تصبح كما كانت قبل دخول العرب والإسلام إلى السودان.

لقد أصبحت الحرب ثقافة تلك المجتمعات وانتشرت في كل المماليك الإسلامية في السودان، ويذكرنا ذلك بقول الشاعر: وأحيانًا على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا. هكذا انتشر الفساد والنهب والبطش والاسترقاق. بالرغم من أن الإسلام وضع حدودا ومنع تلك الممارسات في نصوص قرآنية وأحاديث محمدية. إلا أننا نرجع ذلك إلى نوع الإسلام الذي انتشر في السودان فهو لم يكن الإسلام المؤسس والأصولي، وهذا هو حال معظم الأراضي الإسلامية في القرن الرابع عشر والخامس عشر.

كذلك الفاتحين للسودان لم يكونوا رجال دين بل كانوا تجارا وهاربين ورعاة يحملون أطماعهم السياسية والاقتصادية. إذن ما كان للإسلام أن يخلص الضعفاء من القمع والبطش في السودان ولم ينتج قيما أو أخلاقا أو ثقافة أو مؤسسة تحفز عجلة التقدم للأمام. فكان يجب في وسط هذا الانحطاط والظلم بأن تظهر سلطة تخلص السودانيين من هذا الشر فحدثت عملية إنتاج لسلطة قديمة كانت موجودة بين شعوب السودان، وهي السلطة الروحية.

هذه المرة عبر التداخل بين الدين الإسلامي والثقافة السودانية الأفريقية، فنتج من ذلك التصوف في السودان ولقد نجحت الحركة الصوفية إلى حد كبير في إذابة الفوارق الاجتماعية بشكل تبدو عنده دار شيخ الطريقة أو الضريح على هيئة مجلس كبير لأسرة واحدة كما كان صوت المشايخ مسموعا مقبولا أو مهابا من طرف السلطات السياسية والقبيلة استنادا على نفوذهم الروحي وسطوتهم المعنوية لما عرف عنهم واشتهر بين الناس من إتيان الكرامات والمعجزات وقامت الحركات الصوفية بدور الوسيط بين الشعب ورجال السلطة السياسية وبين المماليك لوقف الحروب والصلح بينهم. وأصبحت مكانا يجتمع فيه الفقير والمظلوم والظالم والمريض وابن السبيل.

إذن مع التصوف في السودان ظهرت السلطة الروحية من جديد ولكن بشكل حديث لقد فصلت منها السلطة السياسية ولم تصبح كما كانت قبل دخول العرب والإسلام إلى السودان. إذن التصوف كرابط يجتمع حوله مجموعة من السودانيين كان متجاوزا لأشكال العلاقات والروابط الإنسانية القديمة، إلا أنه لم يتجاوز دور القبيلة ولم يسد الفجوة بين السلطتين السياسية والروحية، فظلت القبيلة هي القبيلة تلعب دورها المعهود في السودان. وبالإمكان أن نقول إن القبيلة ازداد نفوذها وسلطتها وأهميتها بعد انفصالها من السلطة الروحية وأصبحت الأخيرة سلطة ومؤسسة مستقلة بذاتها إلى أن ابتلعت القبيلة الحركات الصوفية في ما بعد. ورجع ذلك إلى طبيعة الحركات الصوفية في السودان التي تميل إلى الزهد والانقطاع للعبادة دون الاشتغال بأمور الدنيا وخلو التصوف السوداني من أي جانب فكري ونظري.

ونجد ذلك في رفض زعماء التصوف المشروع السياسي الذي خاطبهم به المهدي لذلك ظل الحال على ذلك حتى دخول المستعمر التركي إلى السودان في القرن التاسع عشر وصاحب ذلك انهيار المماليك الإسلامية في السودان بسبب الحروب والفساد. فانفردت القبيلة بالسلطة السياسية وبعض من السلطات الروحية وانكمش الدور الروحي للحركات الصوفية في السودان.

إذن في هذا المقال يمكن أن نستنتج بأن مع دخول الإسلام إلى السودان تم خلق سلطة دينية وروحية شاملة وتم كذلك تفكيك السلطات الدينية والروحية المحلية مع الإبقاء على السلطة السياسية للقبائل وفي ظل منأخ عام تنافسي بين القبائل أصبح اهتمام القبيلة الشاغل هو التجهيز للحرب والدخول في تحالفات سياسية، إذن حالة الحرب المستمرة أنتجت ضرورة على الاعتماد على القبيلة وتعزيز دورها، هنا يكمن الاختلاف في بنية السودان الاجتماعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.