شعار قسم مدونات

ظرفاء مدينة "مقطع الأحجار"

blogs- مقطع لحجار
من ظرفاء مدينة مقطع الأحجار التابعة لولاية البراكنة في موريتانيا، رجل يدعى شمس الدين بن سيدي باب، وهو شهير وموصوف عند أكثر الناس، وعجِبْتُ إذ لم أر قطّ مدونا من أهل المقطع كتب عنه، فله مُـلَح لا حصر لها وأخباره مذكورة في المجالس.
 

ومن نوادره أنه اجتمع مرة بصديق له ظريف اسمه انْدَحمود، وأجمعا أمرهما على المكر بأهل حي الجديدة، فكان أن مَرَّ اندحمود على جمع من جيرانه وأصدقائه في الحي يحمل زكيبة، ويتبعه شمس الدين يسأله بالله أن يأتيه ببعض اللحم، واندحمود لا يلتفت إليه، والقوم يرون ما يصنعان ويستمعون لخصامهما وهم لا يعرفون ما الخبر، حتى أخرج شمس الدين 4000 أوقية ودفعها إلى اندحمود ورجع.
 

فانكب القوم على شمس الدين يسألونه عن الأمر ويستحلفونه بالله، فقال لهم: "إن فلانا نحر ناقة عند الحاووز (برج الماء) وإنه يبيع الكيل بخمسمائة أوقية"، وكان الموسم موسم غلاء اللحم، فخرجوا مطاريقَ جفالاً وهم يخشون فوات الظفر، فمنهم الفتى يجري والشيخ يتبعه والمرأة تهرول، وفيهم الراجل والراكب والمترنم بالأشعار وقائد الحمار وطمَعُه أن يحمل عليه اللحم قافلا، وكان دليلهم أخت المُـــلَح فاطمة بنت الجراد وقد خرجت بسطل لا قاع له، وخرجتْ صاحبة لها أخرى بنعل واحدة وتركت أختها.
 

أخبرني "اندحمود" أن أحب ما في الدنيا إليه رؤية المعيز يتناطحن والجداء تلهو وتمرح بينهن، وأحسب أنه انتسب في مقتبل عمره لحركة "لا تلمس عنزي" وظل وفيا لتلك الرؤية السياسية.

وكان اندحمود رجع من أحد الأزقة واجتمع بشمس الدين لدى حانوتٍ وقد تركا أمة من الناس خرجتْ في طلب العدم. فلما انتهى القوم إلى برج الماء نظروا فلم يجدوا شيئا، وكان شمس الدين وصف لهم الموضع فقال: "إذا بلغتم الحاووز فاذهبوا شمالا ثم ارجعوا جنوبا"، فلم ينتبهوا إلى أن كلامه ينقُضُ بعضه بعضا حيث شغلهم التمني عن التأني.
 

وكان فيهم محمد بن كلّد فقال: "إني لأجد ريح اللحم لولا أن تفندون"، ثم إن مخبرا أخبرهم بمكر شمس الدين واندحمود، فرجعوا يتضاحكون وكان أمرهم ذاع في الحي، فكل صبي يلقاهم ضاحكا في سخرية وشماتة، وبات أهل الحي يتسامرون بخبرهم. ولما كان من الصباح خرج محمد بن كلّد غضبان حتى انتهى إلى اندحمود وشمس الدين، فأقبل عليهما باللوم والعتاب، ثم أخذ يرميهما ببلوغ العجائب في فن الكذب، فقال شمس الدين: "كذبُك أولى بالعحب حين زعمتَ أنك شممتَ رائحة اللحم".
 

أما اندحمود هذا فهو من ظرفاء العصر، ولي به معرفة ودراية، وقد أخبرني أن أحب ما في الدنيا إليه رؤية المعيز يتناطحن والجداء تلهو وتمرح بينهن، وأحسب أنه انتسب في مقتبل عمره لحركة "لا تلمس عنزي" وظل وفيا لتلك الرؤية السياسية فعاين تغير طباع العنز من البداوة وهي "اعرابْ" إلى الحضارة وهي "ا گويره".
 

وما زال يعطف على المعيز حتى إنه ليطعم عنز الرجل وبينهما عداوة. ثم إنه -عفا الله عنه-أحرص الناس على تسمية الجداء، فمنها ما يسميه "فرعون"، فإذا سئل عن ذلك قال إنما الأمر تيَمُّنٌ بذكر فرعون في القرآن، وقد أسمى تيسا له "مسيلمة" تفاؤلا له بمهنة الكذب في قابل الأيام. وذكر لي في أكثر من مرة أنه ينوي توسعة كوخ الجداء، وتركيب تلفاز به ليؤنس الجداء أوقات غياب أمَّاتها، فنصحتُ له بألا يفعل، لأن الجدي سيدمن المسلسلات ويفتنه ما في معيز الغرب من رُقيّ فلا يميز الحسن من السيئ، ويهيم بتقليد التيس الأوروبي ويتمنى الزواج بالعنز الأميركية فتفسد أخلاقه وتشتعل عداوته لمجتمعه، فيمتهِن العبث ويفسد اعتقاده وينسى لغته وهُويّته.
 

ومن آخر ظرافات اندحمود أنه زعم أن عنزا له ضعفَ بصرها فصارت لا تميز القمح من الأعلاف الأخرى، فمازال يهمُّ بالذهاب إلى الطبيب وسؤاله أن يكتب لها نظارة طبية، حتى شغله عن ذلك تيس أجهده المرض بعد صحةٍ وشباب، فانقطع في علاجه وأخذَ يرقيه ويزعم أن عنز جارٍ له سحرته. عشتم طويلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.