شعار قسم مدونات

حلم من ورق

kite
في حضرة الواقع الذي نعيش وغياب أحلامنا بالواقع أن تصلحه أحلام غد، وآمال ما بعد غد، نقع في فخّ الفقد الأليم بين حضور يوم لا يعجبنا وغياب غد يطيل فيه الغياب ونغرق في الفقد، وضياع ذكريات الزمن الغابر، وأقاصيص زمن جميل لا يعود.
 

وبين هنا وهناك ما زلت أسائل نفسي: كم علينا أن نلتفت لحياتنا بأيامها ومصارفها وصورها؛ كي نختزل في الذاكرة عنفوان اللحظة وقدسيّة الزمن عندما نستفيق برهة في حياتنا على لحظة فرح؟ فنسجل في ذاكرتنا صورة بل وتختزل في الخاطر لقطة تذكاريّة لا تغيب عنه ولن تغيب. وكلما التفت إلى ما مضى من أيام الزمن الجميل نهلت من عبق الأيام التي غدت متعبة وعصيّة عليّ بالتذكّر، لحارتنا الصغيرة الكبيرة، عندما كانت أحلامنا الصغيرة أكبر وأعظم ذخيرة نقتات بها لاكتمال الحياة في عيون طفولتنا البريئة.
 

أيتها الأيام لو أنّ لي بك قوّة عندما كانت طائراتنا الورقية تسبح في سماء أحلامنا، وترسم في آفاق أوطاننا حلما بنسيج عربي يحلم أن يكتمل، كانت أسوار البيوت البسيطة المتلاصقة لنا فيها أحلام شاهقة، تنبعث منها رائحة الندى، وأشجار المزرعة الصغيرة، هناك في أطرافها غابة وأدغال نغامر فيها أياما من لعبنا المتواصل.
 

عندما كانت القرية تبكي جرحا واحدا، وتفرح لفرح واحد، كانت حيطان حارتنا العالية تئن لألم واحد، وتفرح -بل وينتشي الكون فرحا- كلما لاح طيف فرح يتقاسمه أهالي الحارة الطيبين.

أعود أسائل نفسي: كم يلزمنا من الوقت كي نستطيع في لحظة ما أن ننتشي بنفس الشعور لتلك اللحظة التي عشناها فحلّق الفرح فوق رؤوسنا كغيمة ظللتنا ثم أمطرتنا ثم رحلت، فتطبع صورة لنا في البال تختزل في صورة أو بضحكة تغرق بين حنايا قلوبنا وترتسم في مخيّلاتنا صورة محفورة في البال لا تحيد. عندما كانت القرية تبكي جرحا واحدا، وتفرح لفرح واحد، كانت حيطان حارتنا العالية تئن لألم واحد، وتفرح -بل وينتشي الكون فرحا- كلما لاح طيف فرح يتقاسمه أهالي الحارة الطيبين، فكما وجدوا الفرح أكبر مجمّع لهم كان الألم أعظم مجمّع ومقرّب لقلوب متخالفة الوجهات والاتجاهات، بل متعدّدة المنابت والاعتقادات.

كانت أيام الصيف تعبق برائحة المغتربين كالمطارات التي تزفر بحنين لأوطان اشتاقت لساكنيها، فيقطف العائدون من ثمار أوطانهم كل عام ثمرة الفقد، ويحتسون الحنين قهوّة مرّة كغربتهم، بل غدا الشوق رفيقا لهم في رحلاتهم الدائمة إلى ربيع الأوطان، ومرافق دائم لهم ومكوّن أساسيّ لا يغيب من كل حقائب السفر.
 

عندما كانت حارتنا تزدحم برائحة السفر في كل صيف كساعة المقيل، ومع كل ملاق ومودّع كانت تغرق نوافذها من دموع أمهات بذلن الغالي والنفيس؛ كي يعود الغريب إلى بلاده ليؤمن لقمة لمّ الشمل في مثل هذه الأوقات، ولكي يحظى بمثل هذا المقيل كان عليه بذل الكثير.

كانت حارتنا ملاذا لكل الغرباء، وأرضا لكل الكرماء، كما كانت ملعبا لكل أحلام الطفولة، فنقيم مباريات لكرة القدم عصر كل يوم، فكانت جميع مبارياتنا وديّة، وكانت خساراتنا فيها مرضية مجزية كالفوز، فيغدو عكاز جدّي أكبر سلاح نقتنيه في البيت، ونعوّل عليه انتصارات في كل نزالات الصيف، كان الغول هو أكبر عدوّ يقضّ مضاجعنا ويؤرّق نومنا الهانئ والعميق.

كانت تعود معنا كل الطفولة نحملها في صدورنا وبأيدينا العابثة كرات ثقبت من جراء الركل بأقدام بريئة ورؤوس جريئة، كنا نعترف بالخسارة مثل الفوز، ونرضى بالقليل، فما بين أمس والغد، يوم نعيشه بكل الفقد والبعد لأيام تمضي، في كل حين وليتها تعود. كم علينا أن نحزن ونعيش في الأسى؛ كي يأتي الفرح ليطمس كل الآلام والصور فيختزل اللحظة من الزمان بفرحة تكسو سواد القلب بياضا، وضحكة تنتزع دمعة وتدفعها بفرحة، لتختزل الأسى بلقطة من فرح يدوم؟
 

كم علينا أن نسافر في الحياة بين محطّاتها بين أزمان وأشخاص وأماكن، كم علينا أن نقف؟ وكم علينا أن نسارع لنختزل في حقائب سفرنا ما يلزمنا، عدّة من صور تحملنا لنعيش كلما اشتدّت علينا غربة هذه الحياة؟ كم هي الصور التي سنصطحبها؛ كي نقوى على الحياة فنعيش؟ كم هي الألوان التي لا بد أن نختزلها؛ كي ترتسم الحياة في عيوننا لوحات ومناظر؟ بل كم هي الروائح التي لا بد أن نحتفظ بها لتختزل بها رائحة العطر والطيب الذي تنتشي به الحياة؛ كي تختزل رائحة الألم والدمّ التي تعم الكون لنفرح؟ 

أيتها الحياة أرجوك، اختزلي لنا فرحا وصورا يعيش الفرح فيها وطنا فلا يغادرها!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.