شعار قسم مدونات

حلب.. ستة احتلالات وانتداب

Blogs - Aleppo
"التاريخ لا يُعيد نفسه، لكن له قافية"

فكرة إعادة التاريخ نفسه لطالما كانت مطروحة عبر تاريخ الحضارات عموماً، وبشكل خاص في صعود الإمبراطوريات وسقوطها. كثير من الجدل يدور حول الفكرة، مارك دوين قال ذات مره: "أحد أفضل النظريات بالنسبة لي هي أنه لا حدث منفرد، بل كل حدث عبارة عن شيء وقع في السابق مرة، وربما مرات عديدة". أما بالنسبة لعالم التاريخ البولندي آدم ميتشنك فقد أخذ الموضوع بجدية أكبر، فلديه قناعة أن التاريخ ليس فقط عبارة عن الماضي؛ لأنه يتكرر باستمرار.

 

نختلف أو نتفق، كل من ينظر إلى الماضي والحاضر سيلاحظ أن نفس الرغبات والعواطف تحرك البشر وتشكل مصير المدن والدول. من السهل إذاً على هذا الأساس التنبؤ بما قد يحدث في المستقبل عبر مواظبة الدراسة والاطلاع لما حصل في القرون السابقة، ومن السهل كذلك منع الكوارث أو الحطِّ من عواقبها إذا استخدمت العلاج الذي استفاد منه السابقون أو التنبه مبكراً لعدم وجود علاج لكي يتم ابتكاره.
 

قد تكون سنة 1400 للميلاد التي شهدت سقوط حلب للمرة الرابعة بيد المغول بقيادة تيمور لنك إحدى أقسى السنوات على هذه المدينة العظيمة؛ حيث قُتل فيها في عدة أيام فقط ما يزيد على عشرين ألف شخص.

فُتحت حلب مع معظم مدن الشام في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بقيادة نخبة من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأسهم أبو عبيدة عامر بن الجراح وخالد بن الوليد -رضي الله عنهم أجمعين-. في هذه المدن والحواضر التي يخلد ثوار سوريا الآن عليها بطولاتهم، جالت خيول المسلمين وصالت. وقبل أشهر فقط من سقوط حلب دارت على تلك الأرض أعنف المعارك، وبفضل الله استعاد الثوار التلة الشاهقة، وفي عام 637 من الميلاد وقعت معركة الحاضر الشهيرة بين طليعة جيش المسلمين وسرية الحماية البيزنطية، وبعبقرية خالد حُسمت المعركة بوقت قياسي وانسحب الروم إلى التلة وتحصنوا فيها، فنظر سيف الله المسلول إلى الأعلى ونادى: إذا كنتم في السحاب فإن الله سيرفعنا إليكم أو ينزلكم إلينا. 

اشتهرت حلب بكونها مركزاً كبيراً للثقافة والأدب والعلم والفنون خلال فترة حكم الدولة الأموية والعباسية والحمدانية حتى قال فيها أبو فراس الحمداني:
 

لقد طُفتُ في الآفاق شرقاً ومغرباً ….. وقلبتُ طرفي بينها متقلبا
فلم أرَ كالشهباء في الأرض منزلاً ….. ولا كفويق في المشارب مشربا
 

و"فويق" هو نهر حلب الذي يقطعها قادماً من هضبة عنتاب لينتهي في سبخة المطخ، مروراً بالبساتين الشهيرة التي تفضّل عليها بمائه. في عام 962 من الميلاد هجم البيزنطيون على المدنية بعد خدعاهم سيف الدولة، حيث توجهت قوات الأخير شمالاً لمقابلة الروم، لكن الجنرال البيزنطي تجاهلهم وتوجه بسرعة شديدة نحو حلب واستطاع كسر أسوارها بعدة أيام وأسر الآلاف من المسلمين وعاد نحو أراضيه دون إسقاط القلعة الحصينة. 
 

بعد هذه الحادثة بعدة سنوات عادت قوات النصارى مجدداً، وأطبقت حصاراً خانقاً على المدينة، وانتهى الحصار باحتلالها بين أعوام 974 و 987 م. بعد انتهاء الاحتلال صارت يد البيزنطيين هي العليا حتى بداية الحروب السلجوقية – البيزنطية في منتصف القرن الحادي عشر، تلك الحرب التي أضعفت النفوذ الغربي، ومهدت للقوات العثمانية فتح القسطنطينية. نهاية التهديد البيزنطي لم تعن انتهاء الأيام الصعبة على حلب، فالغزو المغولي الوحشي أدى لسقوط المدينة أربع مرات، كانت في كل مرة جحافل قوات المماليك جاهزة لاستعادتها. 

قد تكون سنة 1400 للميلاد التي شهدت سقوط حلب للمرة الرابعة بيد المغول بقيادة تيمور لنك إحدى أقسى السنوات على هذه المدينة العظيمة؛ حيث قُتل فيها في عدة أيام فقط ما يزيد على عشرين ألف شخص. قبل سقوط الدول العثمانية رسمياً في عام 1924 م إثر هزيمة حلف دول المحور أمام الدول الحلفاء، وقّعت الخلافة على معاهدة سيفر التي قسمت الدولة العثمانية إلى أرمينيا وسوريا وبلاد الرافدين والحجاز وعسير واليمن، مع إبقاء سلطة صورية للسلطان عبدالمجيد الثاني قبل أن يعزله مصطفى كمال أتاتورك ويطرده من البلاد.
 

رثى أميرالشعراء الخلافة الإسلامية وأنشد:
ضجت عليك مآذن ومنابر ….. وبكت عليك ممالك ونواح
الهند وآلهة مصر حزينة ….. تبكي عليك بمدمع سحاح

وفارس والشام تسأل والعراق ….. أمحا من الأرض الخلافة ماح ؟!
 

كانت نتيجة هذه المعاهدة إعلان الانتداب الفرنسي الذي دام أكثر من ربع قرن، وهنا لا نذكر الاسم الدارج (الاستعمار) لهذه الحقبة الزمنية لوجوب تسمية الأشياء بأسمائها، فالاستعمار يوحي بالبناء والعمار، لكن الحقيقة أن الغرب أتوا لاستنزاف الشعوب الإسلامية وثرواتهم. حلب، المدينة التي مرت على كل هذه المصائب، التي مرت على خمسة احتلالات وانتداب قادرة على النهوض من عثرة الاحتلال السادس إذا تحقق شرطا النصر: الإيمان بالله والإعداد، كما تحقق عندما أعاد السلاجقة أمجاد الخلفاء الراشدين في معركة ملاذكرد بقيادة ألب أرسلان، وكما تحقق على يد سيف الدين قطز في معركة عين جالوت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.