شعار قسم مدونات

الإسلاميون والثورة الإيرانيّة: خطأ الاستدعاء وخطيئة النمذجة!

blogs- الثورة الإيرانية
شكّلت الثورة الشيعية في إيران عام 1979 نقطة تحوّل كبرى في الفكر السياسي الإسلامي في ما اعتُبر آنذاك صحوة إسلامية ستتوّج بثورات أخرى تنتهي بتحكيم الشريعة في نطاق خلافة جامعة، غير أن ما غاب عن الكثيرين أن هناك مقدّمة أساسية ساهمت في نجاح الثورة الإيرانية ألا وهي فكرة "المرجعية الدينية الجامعة" الثاوية في العقل الجمعي الاثنى عشري القائم على الإمامة والمراجع المعصومة، وهو ما يفسر الالتفاف الشعبي الهائل حول شخصية آية الله روح الله الخميني.

هذه المقدمة المذكورة آنفا لا وجود لها في الفكر السني، كما أنّ هناك نقطة تمايز مفصلية تتعلّق بالوازع القوميّ الحاضر بقوة في الحالة الإيرانية في حين أن حضوره محتشم في العالم العربي المتشظي، حيث غدت الدول العربية "كيانات نفسية" على حد عبارة المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، وبالتالي سيكون من السذاجة بمكان النظر إلى الثورة الخُمينية كنموذج قابل للتكرار خاصة مع فرادة التعاطي الخارجي معها.
 

تتقاطع المصالح بشكل لافت بين الدولة الشيعية والولايات المتحدة الأمريكية وهذا التقاطع تعزّز وتكرّس بعد وفاة الخميني، حتى أصبحت طهران فيما بعد ورقة مهمة في لعبة المقايضات الإقليميّة.

إذ يبدو من اللامفكّر فيه سياسيا أن تلقى ثورة إسلامية "سنية" دعما خارجيا كالذي لقيته الثورة الخمينيّة في إيران، وذلك لعدة أسباب نذكر منها طبيعة المذهب الشيعي نفسه القائمة على أدبيّات جاذبة للغرب على غرار المرجعيّة العليا التي تتيح للقوى الغربيّة التواصل مع جهة واحدة وتسيطر على الجماهير أو على قطاع واسع منها عبرها، وهو ما رأيناه مع الغزو الأمريكي للعراق عندما تمّ تدجين الشيعة من خلال فتاوي الانبطاح التي أطلقها المرجع الشيعي آية الله السيستاني.

كذلك علينا ألا نغفل عن مسألة مفصلية وهي العداء الشيعي المزدوج للعرب ولأهل السنة والجماعة من منظور شيعي صفوي ومن منظور فارسي، ولا ننسى في هذا السياق أن قطاعا واسعا من هؤلاء -سنة وعربا- متمركز في فضاء جغرافي يُعدّ نقطة تركّز للمصالح الجيو-استراتيجيّة الغربيّة حيث الثروة والموقع، بما يعني أننا بصدد "أعداء مشتركين".

علاوة على ما تقدّم هناك مسألة مهمّة نرى ضرورة الإشارة إليها وهي تلك المتعلقة بسعي الأمريكيين آنذاك إلى احتواء المد الثوري "الإسلامي" وقولبته بما يتماشى والمصلحة الغربية فضلا عن محاولة تسويق صورة الغرب المتصالح مع الشرق والصليب المتسامح مع الهلال، إضافة إلى رؤية -ثبت خطؤها فيما بعد- تدور حول امتصاص الزخم الإسلاموي واحتوائه في فترة اتّسمت ببوادر صعود للجماعات الجهادية ولاسيما في مصر من خلال بروز جماعة المسلمين "التكفير والهجرة".

ربما نكون بهذا قد تعرّضنا إلى أهم أسباب إحجام إدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر عن دعم الشاه في أواخر عام 1978 وانخراط أبرز وسائل الإعلام الغربيّة في تقديم الثوار الإسلاميين كمجموعة من "الديمقراطيين" المضطهدين يقودهم شيخ حكيم عانى ضيم المنافي وهو آية الله روح الله الخميني..!

في الحقيقة تتقاطع المصالح بشكل لافت بين الدولة الشيعية والولايات المتحدة الأمريكية (1) وهذا التقاطع تعزّز وتكرّس بعد وفاة الخميني، حتى أصبحت طهران فيما بعد ورقة مهمة في لعبة المقايضات الإقليميّة وشيئا فشيئا بدأ السياسيّ يطغى على الدينيّ في ظلّ تبلور نموذج "ولاية الفقيه" الشامل لجميع مناحي الحياة "ولاية عامة"، وحتى سطوة رجال الدين على رجال السياسة هي في النهاية سطوة مسيّسة "بكسر الياء ونصبها" وليس أدلّ على ذلك من تصريحات المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي، فعندما يقول المرجع الإيراني الأعلى "أنا أؤيّد تمديد المحادثات النووية" يمكننا القول إننا إزاء تحوّل مُذهل في الموقف، لأنّ خامنئي كان دائم الإشارة إلى حُرمة التّراجع عن البرنامج النووي قيْد أُنمُلة!

ونحن هنا لسنا أمام إعمال لمبدأ "التقيّة" الشهير بقدر ما نقف على تعاط سياسي بامتياز، ويكفي أن يكون المرشد صاحب الحل والربط في الملف النووي الإيراني لنتأكّد من طغيان السياسة على الدين خاصة إذا علمنا أن الإمام الأكبر الخميني كان يُعارض أيّ مشروع نوويّ من منطلق دينيّ مبدئي. وكأنّ لسان حال الدوائر الاستخبارية الأمريكية وقتها استشعرت مع بوكان أنّ "الجمهورية الإسلامية في إيران ليست إلا امتدادا للبهلوية التي ثارت عليها ولكن بعمامة وعباءة"، والاحتجاج بالدعم الأمريكي للعراق في حربها ضد إيران للقول بإثبات استهداف واشنطن للثورة الإيرانية ليس في طريقه لسبب بسيط وهو أنّ الولايات المتحدة دعمت طرفي النزاع في حرب الخليج الأولى "فضيحة إيران_كونترا".

والعدوان الثلاثيني على العراق بعد ذلك أكبر دليل على أنّ المستهدف الرئيس هو العراق خاصة أنّ غزوه للكويت جاء بإيحاء أو استدراج أمريكي (نحيل على كتاب: "بابل المدنسة" لعادل درويش)، فالأمريكيون لم يسعوا إلى وأد الثورة الإيرانية لكنّهم عملوا على تقليم أظافرها بتوريطها في صراع إقليمي "مثمر"، وحتى "مسرحية" أزمة الرهائن الشهيرة فقد ثبت فيما بعد أنّها كانت في سياق مؤامرة للإطاحة بكارتر نسج خيوطها "وليم كيسي" مدير حملة "رونالد ريغن" -أصبح مديرا للسي آي أيْ في ما بعد- الذي اتّفق مع ممثلي حكومة إيران الثورة على إرجاء إطلاق سراح الرهائن إلى ما بعد الاستحقاق الانتخابي وكان ذلك في لقاء سري انعقد بمدريد (2)!

ولما كان ذلك كذلك لا يمكن النظر إلى الثورة الإيرانية كنموذج يُمكن النسج على منواله، فطبيعة "الديانة" الشيعية ونزعة التمدّد الفارسي الثاوية في صدور الإيرانيين، فضلا عن المطامع الغربية في منطقة سنيّة عربية بالأساس كلها عوامل تحول دون استنساخ نسخة إسلاميّة سنيّة من ملحمة شيعية فارسيّة، وخطأ الاستدعاء هذا لا يحجب خطيئة النمذجة، نمذجة تجربة صفوية رافضية تتحدّد نقيضا بل ضديدا لعقيدة الإسلام الحق..

__________________________________________
(1)  نحيل على مقالينا : "التحالف الأسود .. تقاطع المصالح بين واشنطن وطهران" و"حقائق يجب أن تعرفها عن حزب الله.
(2)  نحيل على كتاب "التحالف الغادر: التعاملات السريّة بين إسرائيل وإيران والولايات المتّحدة الأمريكية" للكاتب تريتا بارسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.