شعار قسم مدونات

مجزرة ذلك اليوم

blogs - hafez

ألف وتسعمئة واثنان وثمانون (1982)، شباط، الساعة السادسة والنصف صباحًا، باشرت سرايا الدفاع عملها الموكل إليها بحماس وشهوة عارمة للقتل، حيث زارت مجموعة منها بيت الدباغ في حي الباشورة فاستهلوا بالأب الذي استقبلهم فتركوه قتيلًا على باب المنزل، ثمّ دخلوا دون استئذان فقتلوا الزوجة، ثمّ قتلوا الشابة ظلال في مطلع عقدها الثالث، وقتلوا وارفًا رحمه الله، وقتلوا عامرًا وهو فتى جذع، وماهرًا كذلك قتلوه، وقتلوا صفاء كي لا تكمل عامها العاشر، ولم يوفرّوا كلًّا من رنا وقمر فتركوهما قتيلتين. ثمّ رأوا ألّا يعفوا عن الطفل ياسر ذي الست سنوات ليتابع طفولته. ولم يغادروا قبو المنزل حيث التمست تلك العائلة المسكينة المظلومة قليلًا من الأمان إلّا وقد أجهزوا عليها. اللهم تغمد آل الدباغ برحمتك.

وإذ لم يصبهم التعب من هذه المهمّة السريعة العاديّة وظنوا أنّها لن تشبع شهوة قيادتهم للدم وهي التي زودتهم بصلاحيّة واسعة للقتل وتنتظر منهم براهين على القسوة المفرطة والولاء المطلق، انتقلوا إلى بيت السيدة جميلة الأمين فقتلوها وقطعوا يدها وسلبوا حليّها، وقتلوا أطفالها الثلاثة، ثم أضرموا النار في البيت بعد نهبه.

استمر القتل حيث تنقل القتلة من بيت وبيت على مدار ذلك الشهر، فما وجدوا من حيّ إلّا ووجدوا له طريقة مختلفة للقتل.

وأمّا آل الموسى، فقتلوهم جميعًا لوقايتهم من شهود مجزرة أكبر تحدث الآن. شقق عائلاتهم الأربعة في بنايتهم في حيّ الباشورة قرب الاتحاد النسائيّ اقتحمت بعد راحة التخلّص من السيدة جميلة وأولادها. فبعد أن تمّ تجميعهم في شقّة واحدة، بدؤوا بأحد الآباء يحمل رضيعًا توسلّهم به، فاستفزّهم بتوسله، فاستعجلوا فقتلوه ورضيعه بطلقة واحدة، أو باثنتين. ثمّ أعملوا بالبقية قتلًا، فقتلوا عبد السلام. وسمية بنت عبد السلام الموسى قبل أن تنهي عامها الثامن قتلوها.

ميساء بنت عبد السلام الموسى 7 أعوام قتلت أيضًا بلا أدنى شكّ، فلا معنى للأمل بأنّهم كانوا ليتركوها تكمل سيرتها. ولم يجدوا بدًّا من قتل مهدي بن عبد السلام الموسى الدارج في عامه الثالث. وقتلوا فلك بنت محمود العقاد 50 عامًا. وقتلوا عبد الرحمن بن عبد الفتاح، ابنها. وقتلوا محمد وعفراء ورنا وشهامة، اللهم اسكن محمد وعفراء ورنا وشهامة في مستقر رحمتك. ولمياء بنت علي السراج وزوجة الجريح عبد الرحيم الموسى قتلتا. وقتلوا ابني عبد الرحيم، علي وملهم، أربعة وثلاثة أعوام على التوالي، وقتلوا رانيا بنت مروان وهي في السادسة من عمر قليل. وقتلوا ضيفهم الذي جاء يلعب مع الأولاد ويشهد المجزرة، وليد بيطار لسبع سنوات.

ثمّ مالوا على آل القياسة في الحيّ ذاته، شارع أبي الفداء، فقتلوا آل القياسة. ثمّ قصدوا لنهب بيت آل العظم، ففعلوا. ولم يكتفوا بالسلب، ولم يحترموا شيبة زوجة المرحوم صبحي العظم؛ فقتلوها لثمانين عامًا، وقتلوا ابنها وهو يصغرها بعشرين.

وعرجوا على بيت الدكتور زهير المشنوق، حيث نجت بلطف من الله انتصار الصابوني لتروي مقتل ثلاثة رجال وتسعة وثلاثين بين امرأة وطفل في قبو المنزل حيث لاذوا. وقيل أنّ رضيعًا تابع حياته بعد أن اخطأه الرصاص فوجد. وعرف من الشهداء، فاتن النمر 17 عاماً، ومسرة الشققي 51 عاماً، وداد كيلاني 58 عاماً، وميسر سمان، والسيدة أم ياسر بقدونسي، وزوجة نوري أورفلي، والجدّة ضحى أورفلي، وسميّتها ضحى أورفلي الحفيدة.

ووجد مقتولًا كلّ من كيثو نوري أورفلي وعماد نوري أورفلي (أربعة أعوام فقط ليس غير)، ووليد آخر لنوري مُنع من تجاوز يومه الستين. وتُعرّف على زوجة خالد تركماني 30 عاماً، وابنه 17 عاماً، وطفل انتصار الصابوني. زوجة محمود حلواني (ربة منزل)، وفاء حلواني 24 عاماً (موظفة)، رهيف محمود حلواني 22 عاماً (طالبة)، قُتلن كذلك في ذلك المشهد.

وكان القتل مصير آل الصمصام بعد آل القياسة، أو قبلهم، وهم أربع عائلات، إذ قتل من العائلة الأولى، عبد الرحمن الصمصام، رحمة الله على عبد الرحمن، وزوجته، رحمة الله على زوجة عبد الرحمن، ووالديه، رحمة الله على والديّ عبد الرحمن. ومن العائلة الثانية قتلوا محمد الصمصام 50 عاماً، وزوجته، وابنه. ومن العائلة الثالثة قتل ياسر محمد الصمصام، وقتلت زوجة ياسر، وقتل طفل ياسر. ومن العائلة الرابعة عمر الصمصام 50 عاماً، والدا عمر الصمصام. وتُرك بيت الصمصام الميسور قتيلًا مسروقًا وخاويًا.

وقتلت عائلة الكيلاني، في اليوم ذاته والحيّ ذاته، رب الأسرة خالد، وصاحبته، وطفلتهما الأولى وطفلتهما الثانية. وفي يوم لاحق، اليوم التاسع التحم جنزير الدبابة بفقرات صالح عبد القادر الكيلاني (52 عاما) وفواز صالح الكيلاني (21 عامًا) حيث اجتهد القتلة على ما يبدو بتعقّب أفراد آل الكيلاني.
وفي يوم ثان من أيّام مجزرة حيّ الباشورة قتل بيت أبي علي طنيش وهم نيام، الأب وأولاده الذين لم يتجاوز أكبرهم العاشرة من عمره. وقتل بيت الرتكماني، عائدة العظم تركماني، وابنها طارق تركماني.
 

وقتلت السيدة ميسون عيّاش، حيث اقتحموا بيتها، واستجوبوها عن زوجها، فضاقوا ذرعًا بجوابها، فهو يعمل في الخليج، فقتلوها وقتلوا حماتها، المرحومة فهميّة لطفي، ونجا طفلان ولله الحمد لم يقتلا.

وعرفت في هذا اليوم مجزرة الثانوية الشرعيّة، قُتل فيها العشرات في حي الدباغة رميًا بالرصاص، عرفت منهم مجموعة من آل اللغباني. وتعرفوا على جثث لا تتجاوز السادسة عشرة من العمر.

وفي حي الدباغة، جمع ناس من أهل حماة في منشرة البدر، في حي الباشورة، يوم قُتِل من آل الحداد وآل البدر وآل العبد والزين والحكواتي. وبلغ عدد من قتل الستين. الجد من آل العبد احتضن حفيديه تحت عباءته، لكنّه وفر على ما يروى على القاتل عدد الرصاصات حيث أرداهم بنيشان واحد. اللهم فارحم عبد القادر الحداد وعدنان عبد القادر الحداد وماهر بدر البدر ومازن بدر البدر ومسعف بدر البدر وأحمد محمد الزين وياسر محمد الزين ورئيف العبد وسعيد رئيف العبد ومسعف رئيف العبد وغزوان رئيف العبد، وجميع من قتل مظلومًا مغدورًا في ذلك اليوم.
 

وقتلت الفتيات بعد اغتصابهن قتلًا انتقائيًّا، كما يروي الرواة. ففي في حمام الأسعدية منتصف سوق الطويل، وجدت جثث كثيرة لفتيات مسجيات ليس بشيء إلّا بصمت خفر حييّ.

وقتلوا الشيخ عبد الله حلاق وقد ناهز الثمانين وكلمات الله على شفتيه، سخروا منه وهو يتلو كتاب الله، فقتلوه لأنّهم زعموا بأنّ يد الله قاصرة عن نجدته، قتلوه حرقًا وشهدوا على أنفسهم، قتلوه رحمة الله عليه.

القاتل هو هو، مجّرد قاتل بلا حاجة لأيّ صفات أخرى، يعيد تقديم نفسه بالأسلوب ذاته كقاتل، يقتل ويقتل ويقتل بلا ملل ولا تعب، ولا يفعل شيئًا غير القتل.

واستمر القتل حيث تنقل القتلة من بيت وبيت على مدار ذلك الشهر، فما وجدوا من حيّ إلّا ووجدوا له طريقة مختلفة للقتل، وكان قتل الناس شيوخهم وأطفالهم ونسوانهم يساهم في مسرّة الجنود والمليشيات الطائفيّة قبل كلّ شيء، فلقد اقترحوا على أنفسهم طرقًا للسخرية من ضحاياهم قبيل قتلهم وعند قتلهم، وبدوا مندفعين نشيطين لتحويل المدينة إلى مقبرة، لقتل المدينة التي حوصرت وأغلقت وحجبت، ولولا أنّ الموت فاض منها لما سمعنا شيئًا. وفي خطاب من شهر آذار من ذلك العام قال القاتل الأكبر في مؤتمر لحزب القتلة "إنّ ما حدث في حماة حدث وانتهى".

لا لم ينته، ولن ينتهي كما نرى وسنرى. لا تبدو مجزرة ذلك اليوم معزولة ولا منقطعة إطلاقًا، نعم قد تبدو غامقة وبعيدة نسبيًّا، يحول بيننا وبينها طبقات من الصمت ومن محاولات مضنية للنسيان، يبددها اليوم تعميم للمجزرة وتكثير وتوسيع لها على كامل الرقعة السوريّة.

القاتل هو هو، مجّرد قاتل بلا حاجة لأيّ صفات أخرى، يعيد تقديم نفسه بالأسلوب ذاته كقاتل، يقتل ويقتل ويقتل بلا ملل ولا تعب، ولا يفعل شيئًا غير القتل، ولا يجيد شيئًا إلّا القتل، ولا يتصور آخرًا في سوريا إلّا قتيلًا، مرّ من يوم إلى آخر عبر كلّ هذه السنوات كقاتل، وتنقل كقاتل كما فعل في مجزرة ذلك اليوم فلا يصادف حيًّا إلّا وتركه مقتولًا. والقتيل كثير متعدد، له سير وأسماء وسجايا وصفات غزيرة، تحتاج لاستحضار ورواية بعناية واحترام وإجلال، لانتصاف ولتكريم عام سنويّ طقوسيّ، للوقوف العينيّ على مواضع الألم، ألمه الجمعيّ والفراديّ، وللوقوف إلى جانب الأرواح المتعبة والمهملة من حقبة ثقيلة وقاسية ومؤلمة، يجب أن تنتهي، وستنتهي، لنقف قبل كلّ شيء أمام تلك الاسماء، وعلى ذكرى أولئك المقتضبة سيرهم والمعذبّة.

ويبقى السؤال المرهق، والذي يهدد أكثر من غيره بفقدان روح تلك الاسماء وبضياع دم الضحيّة؛ هل تؤسس المجزرة لذاكرة جمعيّة سليمة ونشيطة وإيجابيّة وحرّة دافعة لتجاوز شروطها؟ أم إنّها في حالتها الأقسى تمزّق هذه الذاكرة أو تؤسس لواحدة خائفة يائسة وخانعة وأسيرة قابضة تعيد شروط المجزرة وتكرارها مرّة بعد مرّة؟.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.