شعار قسم مدونات

كلاوديو.. نبي هذا الزمان

blogs- كلاوديو

أعلنت إدارة نادي ليستر سيتي إقالة المدير الفني الإيطالي كلاوديو رانييري من منصب المدير الفني بسبب ما أسموه تدهور نتائج الفريق.
 

عفوًا هذه ليست الكاميرا الخفية أو مزحة خفيفة ثقيلة الظل، إذ يبدو أن إدارة ليستر سيتي قد نست نفسها ونست اسم النادي واعتقدوا أنهم نادٍ كبير له باع طويل وتاريخ مشرف في عالم كرة القدم وأنهم لا يعرفون سوى طعم البطولات، ويبدو أيضًا أنهم نسوا كيف نجوا بأعجوبة من الهبوط قبل سنتين وأن المدينة بأسرها احتفلت حينذاك بعدم هبوط الفريق لدوري الدرجة الثانية.
 

أقول لكم يا سادة بكل صراحة أنه لو كان سألني أحدهم قبل ثلاث سنوات عن نادي ليستر سيتي أو عن مدينة بذلك الاسم فإن أغلب الظن أنني كنت سأجيب بأنها ربما مدينة تقع في أقصى الكرة الأرضية عند القارة الأسترالية ربما أو أن هذا الاسم يليق بمدينة سويسرية تنتج نوعًا فخمًا من الشوكولاتة، وأراهن يا سادة على كل ما أملك أنك لو سألت أحدهم قبل سنتين من خارج إنجلترا فإنه لن يعرف شيئًا عن المدينة.

فاز ليستر وفاز معه كل الفقراء في العالم، كل الذين حاربوا من أجل فرصة واحدة في العمر فازوا مع ليستر. لكن بقيت الأعين كلها منصبة على الكهل الإيطالي "كلاوديو" الذي كان يتحدث الإنجليزية بصعوبة بالغة.

هذه هي الحقيقة، قبل سنتين لم يكن يعرف أحدهم ما هي ليستر وما هو ناديها وربما يتشكك أحدهم بوجود مدينة بهذا الاسم من الأساس. لكن كل هذا تغير على يد كلاوديو، أحد أنبياء هذا الزمان. كلاوديو رانييري، رجل عجوز ليس لديه عصا سحرية وليس عبقريًا بما فيه الكفاية لكنه أتى بمعجزة لم يعد الزمان يجود بمثلها.
 

أتى الإيطالي العجوز إلى المدينة بعد مكالمة مع رئيس النادي، أتى وهو مثقلٌ بالفشل وسوء الطالع وعدم الثقة في نفسه، فالرجل سجله التدريبي ضعيف جدًا وتندر فيه الإنجازات والبطولات الكبيرة، لكن هذا بالتحديد ما كان يبحث عنه كلاوديو بعدما أكل الدهر عليه وشرب. فإدارة النادي لم تبحث عن أكثر مكان آمن في منتصف جدول الترتيب يضمن لها البقاء كل موسم، ولا تهتم كثيرًا بالأداء أو لعب كرة قدم جميلة. فكان الوضع مريحًا وجيدًا للطرفين، فقبل كلاوديو بالمهمة على الفور.
 

وللأمانة أيضًا لا يمكن القول بأن رانييري كان يخطط لكل ما حدث لكنها لحظة كلحظات نزول الوحي، لحظة يتوقف فيها الزمان عن الدوران، لحظة تقلب الكيان مائة وثمانون درجة، لحظة تغير كل شيء إلى الأبد فلا يعود من أتته كما كان سابقًا. لحظة لا تتكرر كثيرًا أو ربما لا تتكرر مرة أخرى.
 

مسنودًا بالوحي قام رانييري بكتيبة اللاعبين الذين كانوا قبل أربعة أشهر فقط يصارعون الهبوط، بدك حصون الجميع، صارعوا الأموال الطائلة التي ينفقها كبار القوم من اجل أن يحصدوا اللقب، صارعوا أيضًا قلة أموالهم وإمكانياتهم، فنحتوا في الصخر طيلة عشرة أشهر كاملة، حتى حدثت المعجزة وفاز ليستر سيتي ببطولة الدوري الإنجليزي الممتاز عن جدارة واستحقاق تحت قيادة كلاوديو رانييري، رجل الـ "ديلي دونج.. ديلي دونج ".
 

فاز ليستر وفاز معه كل مقهوري العالم والمستضعفين في كل مكان ومنتظري المعجزات والأنبياء الذين توقفوا عن الظهور منذ زمن سحيق، فاز ليستر وفاز معه كل الفقراء في العالم، كل الذين حاربوا من أجل فرصة واحدة في العمر فازوا مع ليستر. لكن بقيت الأعين كلها منصبة على الكهل الإيطالي الذي كان يتحدث الإنجليزية بصعوبة بالغة، أن تكون نبيًا في بلدٍ لا تتحدث لغتها بالطبع هذا أمر أقرب للمستحيل، وأن تحقق هدفك وتنشر دعوتك فيهم فهذا هو المستحيل تحديداً.
 

كلاوديو لم يكن نبيًا أو رسولًا فقط، بل كان محاربًا وقائد جيش من المقاتلين الشجعان الذين لم يهنوا يومًا، كان أبًا قبل أن يكون قائدًا، علمهم كيف يكونوا صوتًا لمن كمم العالم أفواههم.

لكن يبدو أن السيد كلاوديو لم يعر أيًا من هذا انتباهًا، فالرجل جاء برسالة واضحة مفادها هو أنا صانع المعجزات، أنا ساحر من حواري روما القديمة، أنا خليفة عيسى بن مريم في هذا الزمان الذي لم يؤمن به أحد يومًا ما سوى قلة قليلة وعندما رفعت صار العالم على دينه، يضعون صوره في كل مكان، يؤمنون به وبرسالته.

لكن كلاوديو لم يكن نبيًا أو رسولًا فقط، بل كان محاربًا وقائد جيش من المقاتلين الشجعان الذين لم يهنوا يومًا، كان أبًا قبل أن يكون قائدًا، علمهم كيف يكونوا صوتًا لمن كمم العالم أفواههم، علمهم أن يكونوا ذخيرة للمتمردين على الواقع، علمهم أن المستحيل ليس سوى وهم خلقه الإنسان ليبرر إخفاقاته المتكررة وفشله ويأسه من تحقيق أهدافه، علمهم أيضًا أن العالم لم يسمع صوتهم حتى يقاتلون ضده. علمهم كيف يقاتلون ضد الأموال التي تشتري المجد والتاريخ، وقاتل معهم ضد كل الآراء والاعتقادات التي سخرت منهم وقالت أنهم ليسوا سوى حفنة من المجانين سينهارون في أي لحظة.
 

فعل رانييري كل هذا وأكثر وخلّد اسمه في تاريخ المدينة وإنجلترا بل في تاريخ العالم كله، وعلى جميع الجدران التي ركلت عليها كرة قدم يومًا ما، وفي كل الأزقة والطرقات التي تشاجر فيها أطفال بسبب كرة القدم، وحفر اسمه في وجدان كل محبي الكرة، وكتب اسمه على جبين المجد. سيد رانييري، لا يهم كيف كانت حياتك كلها، بل المهم كيف كانت نهايتها.
 

تهانينا سيدي، فلقد انتهت قصتك سيدي بالمجد المرصع بالذهب، كم من كريم مات ذليلًا صاغرًا بين القوم، أما أنت الآن فتموت مذكورًا في صفحات الرفعة والمجد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.