شعار قسم مدونات

دواء لا يصرف لصغار العقول

blog-فيسبوك
إن القوالب الفردية التي نصهر بها قناعاتنا ونصنف بها تعريفاتنا الخاصة لماهية المفاهيم الفضفاضة لنقوم بتفصيلها وفق مقاسنا الفكري لتكون أكثر ملائمة لصيرورة الأمور من منطلق خلفياتنا الثقافية واعتقادنا المبطن بأننا نمتلك جل الحقيقة، هي لا شك إطفاءٌ لجذوة المفاهيم التي ندعي بأننا نُشعل قبساً من نورها المتوهج فور دخولنا في أي حوار، منطلقين من مشروعية حرية التعبير ودون الأخذ بالاعتبار بالقيود الموازية والمسؤوليات المترتبة عليها، فمما لا يغيب عن العيان ثقافة تردي الحوار وسوء استخدام الحرية بمفهومها ودلالاتها وحقيقتها التي تنافي كلياً تلك الممارسات والسلوكيات السائدة والتي لا تمت للحرية بأي صلة.
كثيرون نصبوا أنفسهم حراسا للأفكار وللأشخاص، وباتوا يستميتون للدفاع عنهما متجاوزين في حربهم تلك كل القيم والأخلاقيات تحت ذريعة ومسمى حرية التعبير المكفولة، وموجهين الاتهامات الجاهزة إزاء كل من خالفهم، متوهمين بأنهم وحدهم منبع ومركز الحقيقة ،ومصادرين بذالك حريات الآخرين من خلال نصبهم لأنفسهم كوكلاء للحقيقة وندب أنفسهم كقضاة مخولين بمحاسبة الآخرين سواء بتخوينهم أو عبر تجريدهم من انتمائهم أو بتوزيع صكوك الغفران، أو من خلال تقزيمهم وتحجيمهم وإلصاق تهمة الجهل بهم، بينما وحدها الأقزام تنتتهج التطاول منهجاً لتعلي من شأن قامتها، ولتخفي بصوتها العالي حقيقة جهلها، لتعكس بتعصبها وإقصائها مدى ضيق أفقها.

وما مواقع التواصل الاجتماعي إلا نموذج مصغر لواقعنا المعاش، والذي يستحيل فيه الاختلاف إلى خلاف جذري، فلا يكاد يخلو أي موضوع مثار للنقاش سواء أكان سياسياً أو دينياً أوفكرياً أو رياضياً أوحتى فنياً، دون أن ينجرف الحوار ويأخذ منحنى آخر ليمتد كسرعة امتداد النار في الهشيم، فيصل الحوار الثنائي الجانب بين فكرين مختلفين إلى أفراد عائلاتهم فيتم كيل السباب والشتائم المجانية لهم ودونما أي وجه حق، وليأخذ النقاش لاحقاً بعداً جغرافياً لتمتد الإساءات للبلدان أيضاً، ومن المفارقات الغريبة كذلك التشكيك بمصداقية بعض القنوات الأخبارية أو الصفحات الدينية أو الفنية ومن ثم متابعتها لكيل سيل من السباب والشتائم وكأنها ورد يومي للتنفيس عن التراكمات الدفينة مجهولة الأسباب.
 

الحرية لا بد أن تكون مقترنة بالمسؤولية ولا تكون مطلقة، والحوار كذلك له آداب وأخلاقيات، ولا يفترض به أن يتجاوز المساحات الفكرية، لينتقل إلى المساحات الشخصية لأنه حينها يعد إفلاساً فكرياً.

في حين أن زر إلغاء المتابعة يعد خياراً متاحاً دائماً، عوضاً عن تعريض الآخرين للتلوث البصري، فما تستحسنه أنت قد يستقبحه غيرك، وما لا تستسيقه قد يعد مقبولاً لدى الآخرين، فالتفاوت الفكري حقيقة لا مناص منها والاختلاف الإيجابي هوأمر صحي، فأنت حر كلياً في أن تختار الطريق الذي تريد، وأنت حر حينما يتبين لك الصواب بأن تحيد، فلا تكترث بآراء الجماعات ولا تعتد بآراء الأفراد، بل
حافظ على حقك المشروع في خوض التجربة ورسم قناعتك بنفسك، ولا تنجرف كالريشة مع التيار، وكون أنت تيارك الخاص، فمن حقك بأن تخطئ في التقدير، ومن حقك بأن تلتمس جادة الصواب لكي تتطور فكريا، فلا وجود للحقيقة المطلقة بقدر ما تكون نسبية، والحرية هي كالدواء، لذا يجب بأن لا تصرف حتما لصغار العقول الذين لم يصلوا بعد للنضج الفكري لكي لا يساء استخدامها، لأن المجتمع هو من سيعاني من أعراض جانبية من بينها انحدار سقف القيم وغياب آليات وأبجديات الحوار واعتياد وتقبل كل هذا الانحدار الأخلاقي، لكي لا تصنف سلوكياتهم "كحالة" شاذة بل "كعادة" مستساقة في ظل غياب الرادع الذاتي والأخلاقي.

فالحرية لا بد أن تكون مقترنة قطعاً بالمسؤولية ولا تكون مطلقة بأي حال من الأحوال، والحوار كذلك له آداب وأخلاقيات، ولا يفترض به أن يتجاوز المساحات الفكرية، لينتقل إلى المساحات الشخصية لأنه حينها يعد إفلاساً فكرياً ويبرز مدى هشاشة الرأي، ويكشف حقيقة الافتقار لأبسط معايير وأسس وأخلاقيات الحوار.

 
كما أن المعارضة الدائمة والتأييد الدائم هي مواقف متعصبة وغير حيادية، بينما تغيير الآراء وتفاوتها بتغيير الأحداث والمواقف والمعطيات سلباً أوإيجاباً ينم عن نضج فكري، وفي أتون الصراع القائم من أجل احتكار الحقيقة لا بد من إدراك ضرورة إخراج المفاهيم من حيز القوالب الضيقة والجامدة والنظر إلى منهجية الاختلاف كدور تكاملي لا كبعد تصادمي، وأدرك حدود الحريات المتاحة ووجوب تلاشيها فور ابتداء حرية الآخرين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.