شعار قسم مدونات

مختلفونَ بلا خلاف!

تكامل
 إنَّ الناظرَ في أغلبِ الأزماتِ العالميةِ والشخصيةِ يجدُ نفسهُ دائماً بمواجهةِ مفهومٍ واحدٍ، وهو "الاختلاف"، وإن كانَ الاختلافُ في بعضِ هذهِ الأمورِ ليسَ السببَ المباشرَ ولكنهُ المسوِّغُ الأساسي لها. ألمْ يكنِ الاختلافُ بينَ أصحاب البشرة البيضاء والسوداء هو واجهةُ العبوديةِ، وإن كانَ السببُ الحقيقيُّ اقتصادياً بحتاً. وماذا عن الاستعمار؟ ألم يكن السببُ المعروضُ هو ذَلِكَ الفرقُ الهائلُ بين الشرقِ والغربِ؟

لنشرح الأمرَ قليلاً، بالنسبةِ للعبوديةِ فإنَّ سببها اقتصادي ولكن هل كانَ من الممكنِ استعبادُ الأوروبيين للأوروبيين؟ بالطبعِ لا! لأنَّ المستهلكَ الأوروبي سيشعرُ بأنَّ هذا خطأٌ لأنَّ العبيدَ سيكونون مثلهُ، وبالتالي لهم مثل مشاعرهِ وحقوقهِ، إذن فليسَ هناكَ من هو أكثر مواءمةً من هؤلاءِ الأفارقةِ "المختلفينَ"، وحتى تقبلَ هذهِ الفكرةُ لابدَّ من إقناعِ الجميعِ بأنهم مختلفونَ لدرجةٍ تجعلهم أقل إنسانيةً من الأوروبيّ، وبالتالي تسوِّغُ طريقةَ معاملتهم هذهِ كأنها معروفٌ يقدمُ لهم بإخراجهم من أرضهم البدائيةِ المليئةِ بالحروبِ إلى هذا التطورِ الأوروبيّ، ويصبحُ الموضوعُ ليسَ بمسوغٍ أخلاقيٍّ فقط بل وواجباً إنسانياً!

سرُّ جمالِ الأشياءِ باختلافها، من قال أنَّ جميعَ النساءِ عليهن أن تكن بشعرٍ أشقرَ منسدلٍ حتى تكنَ جميلات؟! هذا الذوقُ العامُّ جَاءَ نتيجةَ رفضِ الاختلافِ وإظهارِ الطرفِ الآخرِ بصورةِ المخطئِ أو البشع.

ولقد كان من المهمِ جداً ألّا يضعَ أحدٌ من أصحابِ البشرةِ البيضاءِ نفسهُ مكانَ ذلك الأفريقيّ، أي ألا يفكر أحدهم أنهُ ربما نَحْنُ لسنا متطورينَ حقاً، وربما هم بحياتهم "البدائية" هذهِ أكثرَ إنسانيةً وسعادةً مِنّا؟ هنا فقطْ منَ الممكنِ أن تُدمَّرَ الأرضيّةُ التي بنيتْ عليها كلُّ مسوِّغاتِ العبودية، يلتغي الخلافُ بمجردِ أن تضعَ نفسكَ مكانَ الطرفِ الآخرِ، وأنا أقولُ يلتغي الخلافُ بمعنى أن يُلغى الصراعُ بسببِ الاختلافِ لا الاختلافُ نفسهُ، لأنَّ الاختلافَ من سُنَنِ الكون.

لنأخذ مثالاً آخر في الاستعمار الأوروبي، فقد تم التأسيسُ له قبلَ عدةِ سنواتٍ من حدوثهِ وكانَ من خلالِ المستشرقين الذين وقعَ أغلبهم في فخِّ هذا التمييزِ، ورسمَ الحدودَ الصارخة بين الشرقِ والغربِ لدرجةِ التعاملِ مع الشرقيين كأنهم كائناتٌ غريبةٌ، بمقابل الإنسانِ الغربيِّ المتكاملِ واضع القوانين، وبالمقارنة بين الغربِ والشرقِ يُسَوِّغُ الاستعمارُ نفسهُ، فنحنُ البشرُ الغربيونَ لابد أن نُخضِعَ ذلك الشرقَ للقوانينِ التي تنظمهُ وتمنعهُ من الحربِ واستنفادِ المواردِ الثمينةِ التي طالما هي بيدِ الشرقيّ فهي في حكمِ المُهدرِ!

يَقُولُ آرثر بلفور صاحبُ الوعدِ الشهير:"انظرْ إلى حقائقِ القضيةِ، إن الأممَ الغربيةَ فورَ انبثاقها في التاريخِ تُظهرُ تباشيرَ القدرةِ على حكمِ الذات، لأنها تمتلك مزايا خاصة بها.. ويمكنك أن تنظرَ إلى تاريخِ الشرقيين بأكملهِ فيما يسمى بشكل عام "المشرق" دُونَ أن تجدَ أثراً لحكمِ الذاتِ على الإطلاق" ثم يقول وهو يضع بريطانيا في موقفِ التضحية لأنها قبلت أن تَحكُمَ الشرق "وإنَّ هذا النوع من العملِ هو العملُ القذرُ، العمل الوضيعُ، عمل أداء الضروري من الجهد" هنا نرى أيضاً أنَّ المستعمرَ وضعَ الاختلافَ مسوغاً لكلِ اختراقاتِ حقوقِ الإنسانِ التي قامَ بها من أجلِ رفعِ ذلك الشرقيِّ لمستوى الإنسان! وإن كانَ مقراً منذُ البدايةِ بأنَّ هذا العملَ مشكوكٌ في جدواهُ، وبالتالي لابدَّ من حكمِ الشرقيِّ من قِبَلِ الغربيِّ الأعلم بمصلحته.

الاختلافُ العالمي موجود حقاً لكنهُ ليس شراً، فلماذا علينا أن نمحوه وهو سرُّ الكون! سرُّ جمالِ الأشياءِ باختلافها، من قال أنَّ جميعَ النساءِ عليهن أن تكن بشعرٍ أشقرَ منسدلٍ حتى تكنَ جميلات؟! هذا الذوقُ العامُّ جَاءَ نتيجةَ رفضِ الاختلافِ وإظهارِ الطرفِ الآخرِ بصورةِ المخطئِ أو البشع. ثم تجدُ هذا الذوقَ معمّماً على أغلبِ سكانِ الكرةِ الأرضيّةِ، كأنهُ علينا أن نكونَ جميعاً أصحابَ ذوقٍ واحدٍ حتى نكونَ الأفضل.

لنرجعْ إلى منهج سيد الكونِ وخالقه في هذه الآية "وجعلناكمْ شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم" هناكَ ثلاثُة أمور محورية: جعلناكم شعوباً وقبائلَ "إذن الاختلافُ سنة"، لتعارفوا "هذهِ هي طريقةُ التعاملِ مع الاختلافَ بالتعارفِ لا بالخلاف"، إنَّ أكرمكمْ عِنْدَ اللهِ أتقاكم "وهذا هو المعيار"، إنه المعيارُ الأوحدُ الذي إذا طبقته في كلِّ مواضعِ اختلافكَ ستنتهي الورطة، وأنا حقاً أسميها ورطةً لأنهُ بمجردِ نشوبها يعلقُ الجميعُ بها، ربما لأجيالٍ متتاليةٍ "كما العنصرية"، ومثالُ مجتمع المدينةِ المنورةِ دليلٌ على نجاحِ تطبيقِ هذه الآية لأنهُ كانَ مجتمعاً متبايناً على جميعِ الأصعدة، المدينةُ التي كانت لتكونَ بوتقةً مستعرةً لولا الاحتكام لهذه الآية. إذن لماذا لا نسوّقُ للاختلافِ؟

منبعُ غنى العالمِ باختلافه، تخيل أن اللونَ الوحيدَ حولك هو لونكَ المفضل هل ستكونُ سعيداً عندها؟ تخيل أنَّ كل الطعام بنكهةٍ واحدة! هل تظنُّ أنَّ الله قد خلق هذا الاختلاف عبثاً؟ حاشاه.

ولكن بالاتجاه المعاكس فكلما واجهتَ شخصاً مختلفاً عنكَ في نقاشٍ أو في اختيارهِ لطريقةِ حياتهِ كن سعيداً، لقد أعطاكَ الله طرفاً آخرَ لتتعلمَ من اختلافه، لا تحاولْ إقناعهُ بأنكَ أفضل، أو بأنَّ وجهة نظركَ هي الصحيحة إلّا إذا كُنتَ مستعداً بالمقابلِ لأن تقتنعَ بنفسِ النقطةِ من قِبَلِهِ. عندَ الدخول لأيِّ نقاشٍ ضع من ضمنِ أهدافكَ أن تتغيرَ وتكتسبَ المعرفة، ولا تجعل الإقناعَ هو هدفك، لأنك بمجردِ وضعِ هذا الهدفِ ستفقدُ القدرةَ على تلقي إيجابياتِ الطرفِ الآخرِ.

يقول الدكتور سلمان العودة "إن المختلفينَ أحوج ما يكونون إلى فهم بعضهم بعضاً بشكلٍ صحيح بعيداً عن ردودِ الأفعالِ، وعن الظنونِ والتصوراتِ التي لا رصيد لها من الأدلة والحجج والواقع" هل هذهِ نقطةٌ نظرية؟ ستبدو لك في أول الأمرِ كذلك لكن بعد أن تجربها ستجدها الأفضل، وعندما تكفُّ عن الحكمِ على الآخرينَ وانتقادهم ستنتهي أغلبُ أسبابِ البغضِ ولن تشعرَ بالغيظِ عندما يصرُّ أحدهم على ممارسةِ اختلافه معك، ضع الأمرَ بهذا المنظورِ وعد بذاكرتكَ للأوقاتِ التي اختلفتَ واحتدَّ نقاشكُ مع فلان، وبدل أن تحكمَ عليه هذه المرة ستجدُ نفسكَ قاضياً عادلاً يحاكِمُ نفسهُ أولاً ليجدَ أنَّ سببَ خلافهِ مع الآخرِ كان بغضهُ للاختلاف خوفاً من أن يكونَ الطرفُ الآخرُ على صواب، إذن لا تدخلْ نقاشاً إن وجدتَ في نفسكَ حماسةً متَّقدةً لإثباتِ أنكَ على صواب.

منبعُ غنى العالمِ باختلافه، تخيل أن اللونَ الوحيدَ حولك هو لونكَ المفضل هل ستكونُ سعيداً عندها؟ تخيل أنَّ كل الطعام بنكهةٍ واحدة! هل تظنُّ أنَّ الله قد خلق هذا الاختلاف عبثاً؟ حاشاه، إذن لماذا يصر الإنسانُ على مخالفةِ الفطرةِ ومحاولةِ طمسِ الاختلاف؟ في الحقيقة كل الاختراعاتِ التي ننعمُ بها الآن بدأت من فكرةٍ مختلفة. كم من روحٍ يَجِبُ أن تُهدرَ وحياةٍ لِتُدَمَّرَ وإبداعٍ ليُطمَرَ قبل أن ننتبهَ لأنفسنا ونصحّحَ مسارنا ومسارَ أبنائنا؟ المضحكُ المبكي في الأمرِ أن كل هذا بيدنا لا بيدِ أحدٍ آخرَ، ومن أنفسنا يبدأُ التغيير..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.