شعار قسم مدونات

النموذج المفقود

BLOGS- عبد الله شقرون
بينما لا نزال نسجل أسماءنا ضمن الدول المتخلفة في التعليم وتكوين الأطر العليا بوتيرةٍ تحقق لنا على الأقل اكتفاء ذاتياً، سجل عبد الله شقرون نفسه ضمن قائمة الثلاثين مخترعا الحاصلين على براءة الاختراع في العالم، كان الشاب العربي والمغربي الوحيد الذي لمعَ اسمه في لائحة تثبتُ أن علاقتنا بالعلوم علاقة زُهد، وعلاقتنا بالجهل علاقة عشق وتعلق، والمفاجأة أن هذا الشاب الذي وافته المنية عن سن الواحد والثلاثين سنة، لم يكن خريجاً للمدرسة المحمدية للمهندسين، أو المدرسة الحسنية، أو المدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية، لقد توقف عن الدراسة في السنة التاسعة إعدادي، ليلتحق بعد ذلك بالتكوين المهني، كان عاشقاً للميكانيك فتخرج تقنياً في المسلك، وشق طريقهُ بثبات حتى أخرج بعبقريته وجهده ووقته مجموعةً من الاختراعات التي حصلت على براءة الاختراع، من بينها المحرك الدوار والذي يستعمل كمحرك للطائرات المتوسطة وللهيليكوبتر.

وقد قال شقرون في أحد حواراته إن الولايات المتحدة الأميركية حاولت صناعة هذا المحرك لكنها فشلت في ذلك بعد أن عملت عليه منذ سنوات، ليكون انفراج هذا الاختراع على يديه، وبينما كان شقرون يلوح باختراعه لعل عيون مسؤولي البلاد تستيقظ، كانت عيون دول أخرى تترصد به، وها هي فرنسا تقدم 308 مليون دولار لعبد الله من أجل بيعه اختراعه، وليس هذا فقط، بل طلبت منه بيع هذا الاختراع باستعمال جواز سفر فرنسي، وفي ذلك خطوة فرنسية من أجل تبني الاختراع وجنسيته، بمعنى "فرنسة" الاختراع وجعله يلبس ثوباً فرنسياً، لكن ما لا يمكن تصديقه هو أن عبد الله شقرون رفض العرض رفضاً كلياً، قد يصفه البعض بالغبي والأحمق.

308 مليار دولار، بالإضافة الى جنسية فرنسية، أ يَرفض كل هذه المغريات؟ حتى جوابه الذي كان في لقاء صحفي "إن كان في بلادنا لا حياة لمن تنادي، فسنذهب لمن لديهم حياة وينادون"، لم يكن جواباً نابعا من القلب، كان مجرد تهديد أو صيحة من أجل أن يلتفت له المسؤولون، ألا يدل الثمن الذي أعطته فرنسا لشقرون على قيمة اختراعه؟ لقد كان شقرون يقول فوق المنابر "كفى من هجرة الأدمغة"، لكن المسؤولين يردون عليه بتجاهلهم "هاجري أيتها الأدمغة فلا مكان لك بيننا".

 

مات شقرون تاركاً وراءه 34 اختراعا، وأقصى ما يمكن أن يقال إنه ترك بصمته بين العظماء، وترك اسمه راسخاً في الأذهان وفي التاريخ.
وقد سألوا هذا الإنسان عن سبب رفضه للعرض الفرنسي المغري، فأجاب أنه شخص يحمل رسالة، شخص مؤمن بالمبادئ، سيقول البعض من أصحاب الماديات "فلتذهب المبادئ إلى الجحيم، فهذا العرض لا يقبل الرفض بل القبول، وما فائدة البقاء في بلاد لا ترعى أدمغتها"، سيجيبه شقرون "إذا سلمت فرنسا هذا الاختراع فستستعمله في الحروب، وأنا لن أتحمل مسؤولية قتل الأبرياء أمام الله"، وحس المبادئ والإنسانية والرسالة صار مفقوداً في معظم الاختراعات، فبينما اكتشفت الطاقة النووية من أجل إنتاج الكهرباء، تم استغلالها من أجل صناعة القنبلة النووية التي ألقتها الولايات المتحدة الأميركية على هيروشيما، والتي لا يزال يتحمل سكانها أعباء تلك القنبلة، من تشوهات خلقية وتسرب الأشعة النووية إلى التربة والماء، مما جعل الحياة هناك تصبح كالجحيم، وهذا ما دفع ألفرد نوبل على الندم لاختراعه الديناميت لأنه تم استعماله في الحرب  ليس فيما ينفع الناس.
لقد كان شقرون إنسانا وطنياً، ولا أظن أن هناك من سيفعل مثلما فعل، أو سيصبر مثلما صبر، لقد كان هذا الشاب يحارب ظروف الإهمال والتهميش بوسائله البسيطة، وكان إنسانا ذا أخلاق رفيعة، وذا رسالة جعلته يفضل خدمة بلده على خدمة بلدان لا تنتظرنا على سلم التطور، وتنتهز أدنى الفرص من أجل الابتعاد عنا، فيما نحن لا نزال نعيش صراعا من أجل البقاء، إن شقرون نمودج مفقود داخل هذا المجتمع، نمودج الإنسان الصابر المثابر المقاوم الذي يعيش من أجل رسالة، وليس عيشاً عبثياً لا هدف له في الحياة غير أكل وشرب وموت ووفاة.

لكن يبقى السؤال! ماذا أضفت في هذه الحياة لنفسك ولغيرك، مات شقرون تاركاً وراءه 34 اختراعا، وأقصى ما يمكن أن يقال إنه ترك بصمته بين العظماء، وترك اسمه راسخاً في الأذهان وفي التاريخ، وكما قال مصطفى محمود "قيمة الإنسان هو ما يفعله بين حياته وموته"، وسيظل شقرون النموذج الذي نأمله في هذا المجتمع كي يقوم وينهض، وينتج ويصنع، ويخطط وينفذ، وليس مجتمعا يستهلك كل شيء حتى الأفكار يستهلكها من مصادر أخرى بدل أن يبني حضارته من ثقافته، ورحم الله عبد الله شقرون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.