شعار قسم مدونات

عتَبةُ النّسيان

blogs - فتاة تغمض عينيها
في الفلسفة والطبّ شيءٌ اسمُه عتبة الألم أو Pain threshold، ويعني الحدَّ الأدنى من الشّعور الذي يبدأ عنده المرء بالإحساس بالألم، بحيث أنّ وجعًا أقلّ منه لن يثير شعورك إطلاقًا ولن تحسّ به. تختلفُ قيمةُ تلك العتبة من شخصٍ لآخر، وترتفعُ عند الإنسان الذي تعوّد على الألم، بحيث أنّ على المؤثّر أن يكون أقوى لكي يشعرَ به مقارنةً بشخصٍ آخر لمْ يتعرّضْ خلال حياته لنفس المسيرة من الآلام، جسديًا ومعنويّا.

الأمرُ ذاتُه بالنسبة إلى النّسيان. في زحمةِ الحياة باتت معدودةً الأشياءُ التي نتذكّرها، أو نحملُها معنا من أيّامنا الكثيرةِ والمُتشابهة، التي لا تشبه بعضَها في الوقت نفسه! وكلّما زاد إيقاعُ يومك وكان حافلًا بالأحداث ستحتاج أن يكون الموقف الذي تمرّ به أكثرَ قيمةً واختلافًا وخصوصيّة حتى ينبِش طريقه إلى ذاكرتك، ويَعلَقَ هناك. مع الوقت سترتفع عتبة نسيانك. أمّا على صعيدِ الأشخاص فلن يكون طبيعيًا أن تتذكّر كل الأسماء التي تمرّ بك، يحتاجُ ذلك قُدرةً خاصّة لا يملكها الجميع وذهنًا صافيًا. أسماء معدودة فحسب ترتبط بوجهٍ مميّز أو شخصيّةٍ فريدة أو نمطٍ غريب من الثياب ستنجح في ذلك.

"ولكنّ آفةَ حارتِنا النّسيان" نجيب محفوظ
كلّنا ننسى، وننسى أشياءَ لم نكنْ نتخيّل للحظة أنّها ستختفي من دائرةِ اهتمامنا، بحيث أنّنا لم نلاحظ اختفاءَها من الأساس؛ وجوه أصدقاء المدرسة في الصفّ الأول، معلِّمينا القُدامى، عندما وقفنا لنكتب على السبّورة لأول مرّة بخطّ مرتجف ونحن نتصبّب عرقًا، عندما قطعنا الشّارع وحيدين، وحين كابدنا الخوف والقلق في ليالٍ طويلة وخلنا أنّ الشّمس لن تشرق علينا، وأشرقتْ.

لا ترفعْ عتبةَ نسيانِك على أنقاض النّاس. تذكّرْهم. وسطَ يومِك الحافل والمُرهِق، في انتظارك على إشارة مرور، في شرود ذهنك وأنت تحدّق في جدارٍ فارغ.

كلّ الكلام الذي قيل كان محاولةً بائسة للالتفاف على فكرةٍ لئيمة، تؤرّقني كثيرًا هذه الأيّام، كإنسان بسيطٍ سيواجه مصيره الحتْميّ بالفناء وجهًا لوجه، وسيستحيلُ عدَمًا في يومٍ ما. تؤرّقني فكرةُ أنّني قد أكون واحدةً من تلك الأشياء، أن يكون مصيري النّسيان.

كلّما ألحّ عليّ خاطرٌ من هذا القبيل أشعر بأنّني فَنيت بالفعل، والاعتراف بذلك ليسَ سهلا! يصعُب علينا أن نطلب من أحد ألّا يمسَّ مكاننا في ذاكرته دون أن نشعر بثِقلِ ذلك على أنفسنا وعلى الآخرِ. "لا تنسَني"؟ أشياءُ كهذه لا ينبغي أن تُقال. ولكنّني من الداخل، حتى حين لا أقول ذلك، يهمّني فعلًا ألا أُنسى، كأيّ إنسان. إنّه لمن الصّعب أن تُنسى، أن تستحيل عدمًا في ذاكرة شخص ما، بعد أن كنتَ له صديقًا أو حبيبًا أو أخًا، لمجرّد أنّك غبتَ عن مدى نظرِه، وقد حدث ذلك لأشخاص كثيرين ممّا يزيد توجّسي من ذاك الهاجس. حين أغمضُ عينيّ وأتخيّل صورتي المشرقة في عينيك وهي تبهتُ شيئًا فشيئًا ليحلّ مكانها العدَم، يلوي ذلك ضلعًا في قلبي. حتّى حين يجمعك بي لقاءٌ أو اثنان لن يختلف شعوري: سأحبّ أن تتذكّرني دائمًا.

لا ترفعْ عتبةَ نسيانِك على أنقاض النّاس. تذكّرْهم. وسطَ يومِك الحافل والمُرهِق، في انتظارك على إشارة مرور، في شرود ذهنك وأنت تحدّق في جدارٍ فارغ، وفي الأشجار. كنتُ أحبّ الأشجار…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.