شعار قسم مدونات

عندما يصبح الثائر في شرقنا زنديقا

blogs - شعار ثورة
إن الفكرة الأولى التي تجعل من الثائر في وطننا العربي جاحداً، وتفضي به إلى الردة والزندقة في نهاية المطاف؛ هي هتافه ضد النظام الذي رزح تحت نيره عشرات السنين حتى أصبح وكأنه القدر المحتوم الذي لا مفر منه ولا مهرب ولا خيار ثالث معه، فإما العبودية مدى الحياة وإما الكفر والزندقة، وربما تكون النتيجة واحدة في كلا الخيارين، فلا فرق بين ميت في القبر أو ميت في الحياة.

وعلى هذه السنة مشى النظام العالمي في شرقنا العربي من صنعاء إلى نواكشوط ومن دمشق إلى مقديشو، حيث وضعت اللبنة الأولى لهذا المشروع مع نهاية الاحتلال العسكري المباشر للبلاد العربية والتحول الدولي الذي وجد أن السيطرة العسكرية لم تعد تفي مع متطلبات العصر الحالي، وأنه لا بد من وكلاء يحققون له ما يرغب ويريد من دون أن يقدم أي جهد أو يبذل أي عناء أو يدفع أية تضحية، فكان خيار الأنظمة العربية في وضعها الحالي، والتي أدت ما عليها من حقوق لدى صانعيها والمتحكمين فيها، واستطاعت أن تمزق شمل الأمة وأن تفرق صفها وأن تلهب أجساد أبنائها وتحولهم من شعب ذو حضارة إلى قطيع من الأغنام الشاردة التي يسهل ذبحها في كل وقت وحين.

ولكن ذاكرة الشعوب أطول من ذاكرة جلاديها، وإرادتهم أجل وأقوى، وليس لجلاد أن يخلد إلى الأبد ولا بد من نهاية تضع حداً لغطرسته وترسم حدوداً لغريزة الحيوان التي تسري في عروقه، ولعل الثورات العربية كانت بداية النهاية، وكانت الخطوات الأضمن والأنجع في سبيل الإطاحة بالأنظمة العربية والانتقال من عهد القطيع المعد للذبح إلى عهد الشعب المتعلم الواعي الذي يصنع الحياة ويدافع عنها.

تحولت الثورات العربية من ساع للإطاحة بحكام مجرمين إلى حالة من الصراع الداخلي التي لا ينتج عنها إلا الدمار والخراب والقتل، ويصبح في نهايتها الثائر متهماً بالكفر والزندقة والردة.

ونظراً لأن الحكومات العربية لم تنشأ من فراغ إنما هي جزء من منظومة عالمية متكاملة وهي قاعدة صلبة لمشروع يوجه العالم العربي منذ نهاية الدولة العثمانية وحتى اليوم، فإن سقوط أي منها يعني أن زلزلة في المشروع الدولي قد حصلت، وأن مستقبلاً غير مخطط له في حسابات الدول العظمى بدأت ترتسم ملامحه، وصار من الخطورة بمكان أن يمتد طموح الثائرين لأكثر من الإطاحة بأنظمة الحكم التي أشبعتهم ظلماً وتنكيلاً، ولا سيما مع تكشف الحقائق التي خبأتها عصا الأنظمة وأخفاها بطشها، فكان لا بد من محاصرة الثورات وإفراغها من مضمونها وتحويلها إلى صورة سيئة في رؤوس المجتمعات العربية؛ تصل بهم في نهاية المطاف لتقبل الخيارات الدولية من غير قيد أو شرط.

وكان الطريق الأقرب في ذلك إغراق الثورات بالأفكار الدينية ولا سيما المنحرفة منها، وتوليف الواقع بناء على خطابات الدعاة إلى هذه الأفكار التي يصعب فهمها، وإن فهمت فلا يمكن تطبيقها، والتي تدعو في مجملها إلى محاربة العالم وقتل كل من فيه، وتتغنى بشرب الدماء وأكل الأشلاء وقطع الرؤوس.
وتودي في نهاية المطاف إلى تحويل الثورات من شعبية محقة إلى مشاريع أيديولوجية معبأة بالأفكار الجهادية العابرة للقارات والتي تشكل خطراً على العالم بأسره.

وكان القادر على القيام بهذا الدور نيابة عن الأنظمة العربية التي بانت عورتها وانتهت صلاحيتها؛ الإسلاميون الجدد الذين تم تصنيعهم في السجون العالمية تحت مسمع ومرأى من المخابرات العالمية بكل أشكالها، وخلفهم من تبعهم من الطامحين والحالمين والواهمين والمغرر بهم، وبذلك تحولت الثورات العربية من ساع للإطاحة بحكام مجرمين إلى حالة من الصراع الداخلي التي لا ينتج عنها إلا الدمار والخراب والقتل، ويصبح في نهايتها الثائر متهماً بالكفر والزندقة والردة، ليس لأنه كافر أو مرتد أو زنديق في حكم الشرع والشريعة، إنما في حكم من يرسم مستقبل المنطقة ويسعى لأن يخط حدودها الجديدة، وإن كان الثمن في ذلك ذبح كل من فيها. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.