شعار قسم مدونات

مرآة العين

blogs - eye
كانت إحدى أهم لحظات فرحي التي لا أنساها حين بدأت ممارسة طب العيون، هي نجاحي في رؤية قاع العين لأول مرة باستعمال منظار العين المباشر، تُظلم الغرفة ويريح المريض رأسه على الكرسي وأقرب المنظار من عيني ثم أقترب أنا والمنظار من عين المريض، مرات ومرات من الفشل وعدم الوصول للمطلوب حتى أضاءت الحجرة المظلمة مرة فجأة، وتكشَّفَت لي خيوط الحرير الحمراء على ذلك النسيج البديع، ومنذ ذلك التاريخ وهذه الفرحة تتجدد مع كل عين كأنها المرة الأولى.
 

لأساتذتي في قسم طب العيون بجامعة المنوفية فضل وافر في ذلك بالطبع، أما صاحب الفضل الأكبر علينا جميعا، فهو الطبيب والفيزيائي الألماني هرمان فون هلمهولتز الذي جعلنا نرى ما يكمن خلف ثقب العين الأسود.
 

حتى عام ١٨١٠، كانت النظريات التي تحاول إيضاح سر الثقب الأسود في العين، والذي يبدو أحيانا مضيئا في ظروف خاصة غير واضحة يبدو بعضها طريفا، كانوا يقولون إن العين تمتص الضوء في الصباح ثم تشعه في المساء، شطح الخيال بالعلم مع آخرين قالوا إن الشبكية لها إشعاع كهربي هو المسؤول عن احمرار الثقب الأسود أحيانا.
 

ظهرت تحديات كثيرة أمام منظار العين، تكمن في مصدر الإضاءة، وكيفية توجيهها، وأهم من ذلك اختلاف قوة العيون سواء التي تتنظر فيها أو التي ننظر بها.

هيرمان هلمهولتز أراد أن يجيب طلابه عن هذا السؤال، لماذا يتبدل لون الثقب الأسود، كان عمره آنذاك عام ١٨٥٠ تسعة وعشرين عاما، حين فكر أن خير وسيلة للمعرفة هي التلصص. لكن ما السبيل للتلصص على العين من الداخل؟
 

قبل محاولات هيرمان بأكثر من قرن، كان جين ميري قد سجل نجاحه في رؤية قاع عين القطط حين غمرها في الماء، بين مواء القطط المختنقة كان ميري يدون ملاحظاته على ضوء الشموع، بعد ذلك وتحديدا عام ١٨٢٥ نجح جان بيركنجي في رؤية حجرات عيون الكلاب باستعمال نظارات الرؤية لقصر النظر، أي بالعدسات المقعرة، لكن هذه الملاحظة بقيت بلا استخدام حتى جاء ارنست براك عام ١٨٤٦ وكان طبيبا في مستشفى مور فيلد الذي ذكرناه في التدوينة السابقة، وأعطى تفسيرا دقيقا للون الأحمر الذي يظهر في العين في ظروف خاصة.
 

قال ببساطة "إنها العين.. حين تضئ، كل عين يمكن إضاءتها إذا أمكننا أن نجعل مصدر الضوء ومركز الرؤية في العين، وفي عين الرائي على استقامة واحدة".
 

كانت هذه العبارة هي الحجر الذي بنى عليه عدد من الباحثين في السنوات التالية محاولاتهم لتصميم آلة يمكنها أن ترى دواخل العيون، لكن هذه التجارب لم تنجح حتى عام ١٨٥٠.
 

في عام ١٨٥٠ سجل هيرمان هلمهولتز في الجمعية الفيزيائية في برلين آلته الجديدة، وأرسل نسخة منها إلى السير وليام بومان الذي كان يعمل آنذاك جراحا في مستشفى مور فيلد للعيون ليكون بذلك أول من جرب مرآة العيون الألمانية.
 

ثلاث سنوات فقط، قضتها الآلة الجديد باسمها الذي سماها به هيرمان Augenspiegel "مرآة العين" قبل أن يتغير إلى ophthalmoscope "منظار العين".
 

ظهرت بعد ذلك تحديات كثيرة أمام منظار العين، تكمن في مصدر الإضاءة، وكيفية توجيهها، وأهم من ذلك اختلاف قوة العيون سواء التي تتنظر فيها أو التي ننظر بها، ما يعني أن عدسة واحدة لا تكفي لنحصل على صورة واضحة داخل كل العيون التي نفحصها، وهو ما جعل منظار العيون يمر بالعديد من الأشكال حلا لهذه الإشكالات.
 

كانت تلك السنوات التي عاش فيها هيرمان هلمهولتز هي سنوات الطفرة في علوم الحواس البشرية، واكتشاف خواصها وطرق قياسها، سواء في ذلك الرؤية أو السماع أو الجهاز العصبي، وتبقى العين بين كل هذه الحواس مرآة الحياة التي ضرب بها بالمثل في كل اللغات الحية. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.