شعار قسم مدونات

مصادرة الإبداع في عالم الهدر

blogs - مصباح إبداع
"إن دأب الاستبداد الدائم قلب سير الحياة من الترقي إلى الانحطاط، من التقدم إلى التأخر، من الإبداع إلى الفشل، من النماء إلى الفناء" عبد الرحمن الكواكبي

إن من سنن الحياة أن الإبداع والاستبداد في صراع دائمٍ، فهما ضدان لا يجتمعان، متزاحمان في الزمان والمكان، فلا إبداع في ظل الاستبداد، والعكس كذلك.

في عالمنا العربي لا يزال الطغاة جاثمين على قلوب الشعوب، يحاربون الإبداع والعلم والتقدم، ويصادرونها لتبقى الشعوب في قوقعة الجهل والتخلف والفقر والاستعباد، وهي التي تقوم عليها عروشهم، فهي أعمدتها وأركانها، فإن ذهبت هذه ذهبوا، وإن زالت زالوا، فيسعون دائمًا لترميم أركان عروشهم بمصادرة الإبداع الذي ينتهي إلى التقدم، وتكريس الفشل والخيبة في نفوس الشعوب.
"هناك من يصادر الإبداع لأنه يخشى أن يصادره الإبداع". د.سلمان العودة

إن نخبة الشعوب في بلاد القمع في ثلاثة أحوال "مسجون أو منفي أو تحت رقابة المخابرات". ففي سجون الطغاة في كل حقبة من الزمان لا تخلو سجونهم من العلماء والمفكرين والشعراء الهجائين لهم، والصحفيين والمخترعين المبدعين المهدورين وغيرهم ينتظرون مصيراً واحدا هو "الموت".

يروي صاحب رواية القوقعة أن أحد المساجين في سجن تدمر، كان عالم جيولوجيا حاصل على شهادة الدكتوراه من أميركا، أصابه الجنون بعد عشرة سنين من القهر والتعذيب ومن تأنيب النفس، بعد أن رفض العروض التي قدمت له في أميركا للتدريس في جامعاتها، ليعود إلى بلده الأم ليخدمها ويكون أستاذًا في جامعاتها لينهض بها.. كان مصيره الجنون..

متى رأى فيكم الغربي استعدادًا واندفاعًا لمجاراته أو سبقه، اغتال عقولكم لتبقوا وراءهم شوطاً كبيرًا، كذلك شأن المستعمرين.

يحكي أيضاً "مصطفى خليفة" عن طبيب في الأمراض الجلدية يعتبر عالمًا في اختصاصه على مستوى العالم، وله مؤلفات كثيرة، كان المسؤول عن تعذيبه سجان"أميّ"! لا يجيد كتابة اسمه، عند تأمل الموقف تخرج بنتيجة واحدة "في بلاد القمع العلم لا يساوي شيئًا، السيد هناك هو الجهل". دكاترة وعلماء ومهندسون وأدباء أصابهم الجرب في السجن الصحراوي.

الفارس عدنان قصار اعتقل ستةً وعشرين عاماً لأنه فاز على باسل الأسد في سباق الفروسية آخر عهده كان في مسلخ صيدنايا، الكاريكاتير علي فرزات كسروا أصابعه، لأنه سخر إبداعه لنصرة الحق، المدونة طل الملوحي منذ اعتقالها قبل تسع سنين إلى الآن لا يعرف عنها شيء، أحد لاعبي كرة القدم المحترفين شطب من قائمة المنتخب ومنع من دخول البلاد بسبب موقفه السياسي، وآخر شطب اسمه لأن ابن المسؤول أولى منه فالاختيار حسب الطبقة الاجتماعية لا حسب المهارة.

الأديب والمفكر الكبيرسيد قطب كان مصيره الإعدام شنقًا، الدكتور والمفكر سلمان العودة شن عليه المشايخ المزيفون هجوماً واسعًا بعد صدور كتابه الرائع "أسئلة الثورة" لأنه يدعو للثورة على "ولاة الأمر"، ومنعت لاحقاً دار النشر من نشر الكتاب من قبل ولاة الأمر. وغير هذه الأسماء آلاف وآلاف لا يسع ذكرهم. إن مصادرة الإبداع لا يكون فقط بالسجن والقتل والمنع، فالإهمال وعدم توفير حوافز مادية ومعنوية للمبدعين سلاح من أسلحة مصادري الإبداع.

ومصادرة الإبداع ليس حكراً على المستبدين، فالغرب يلعب دورًا كبيراً في هذا المجال، فقد اغتالت المخابرات الأميركية الكثير من العلماء في شتى التخصصات وخصوصًا علماء الذرة، الموساد له يد طويلة في هذا، ممن اغتالوا عالم الجغرافيا جمال حمدان صاحب كتاب "اليهود انثروبولوجيا"، والرسام ناجي العلي رسام "حنظلة" الذي أصبح رمزاً للفلسطيني المقهور، والروائي العظيم غسان كنفاني وغيرهم من العلماء والمخترعين والمناضلين والشعراء، وآخر مهندس المقاومة "التونسي أحمد الزاوي".

يقول الكواكبي رحمه الله: "متى رأى فيكم الغربي استعدادًا واندفاعًا لمجاراته أو سبقه، اغتال عقولكم لتبقوا وراءهم شوطاً كبيرًا، كذلك شأن المستعمرين"، ولكن للمستبد نصيب الأسد من هذا. إن وظيفة المواطن العربي المهدور في عالم الهدر والقمع والظلم، العمل من أجل رغيف الخبز ودفع الضرائب واستهلاك بضاعة الغرب، والتسبيح بحمد الظالم والدعاء له بطول البقاء لأنه أبقاه على قيد الحياة.

"لعن الله الاستبداد، المانع من الترقي في الحياة، المنحط بالأمم إلى أسفل الدركات، ألا بعدًا للظالمين". الكواكبي

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.