شعار قسم مدونات

عندما يكون بر الأمان.. مخيم

blogs - tent

ذات ليلة قررنا الرحيل من دمشق، أنا وأمي وأبي.. بعد نزوح لعدة أماكن ساء حالها، بعد نزوحنا إليها.. كان وجهنا مصدر شؤم، أو أنها تدابير القدر التي تريد أن تقودنا إلى ضفة أخرى.. غادرنا بيتنا الجميل ولم يغادرنا، بقي أملنا بعودتنا إليه إلى يومنا هذا..
 

وضَّبنا بعضاً من أشياءنا، فقد كنا متفائلين إلى حدّ السذاجة بأن العودة جدّ قريبة !
هم فقط بضعة أسابيع، أو أشهر بحال ساءت الأوضاع !جميع المنكوبين ينخدعون، يخالون أنفسهم أناساً طبيعيين، وأنهم استثناء من الجمع الغفير من البؤساء حولهم!
 

ساعدنا عناصر من الجيش الحر بتدبير أمر تهريبنا إلى الأردن.. من منزلنا إلى ضاحية قدسيا، ثم إلى خان الشيح.. بقينا في مزرعة هناك ما يقارب النصف ساعة، وبعدها جاء من ينقلنا إلى منزل أحد الأهالي في المنطقة ذاتها، ننتظر إشارة من أحد الكشاف على الحدود، لنمرّ ونتابع طريقنا بسلام، لكن طال انتظارنا ونمنا ليلة هناك في منزل متواضع، عند عائلة مضيافة.. متناهية الكرم واللطافة، برغم فقر الحال الذي تعانيه! في عيونهم فرحة كبرى بنا، لأنهم يرون أننا قدمنا الكثير، قدمنا رجلاً من حديد عن الحقّ لا يحيد!
 

كان سيطه سابقاً له،عن أخي أتحدّث، عن القائد الذي انشق عن جيش النظام، بأول كتيبة صواريخ في عهد كان الجيش الحر بأوجه، استمرّ في المضي ولم يتسمّر بمكانه كما فعل كثيرون، اتخذ الحنكة والذكاء، والتخطيط طريقاً آمناً ليصل لغايته بالانشقاق مع كتيبته، من دون أية خسائر، ولم يتخاذل!
 

كانوا سعيدين بنا، وكأنّ أحد الأمراء قد حلّ في ديارهم.. أمضينا يوماً آخراً ضيوفاً لدى ذات الجماعة، وبدأ أبي بالانفعال، وقال بأنه يريد العودة إلى الشام.. ناكساً اتفاقه بالرحيل من دمشق، فقد تأخر وصول الخبر، وما عاد يطيق صبراً أن يكون ضيفاً عند أناس، قد بدى على محياهم معالم الفقر البائس.
 

وصلنا أخيراً إلى منطقة الأمان، تلقانا الجيش الأردني بشهامة وترحاب كبير، استبشرت بملامحهم الطيبة وبمعاملتهم الراقية خيراً، أتممنا الإجراءات الروتينية، بعرض الوثائق الخاصة بنا وأخذوا منا جوازات السفر، وتم فرزنا إلى مجموعات، ونقلونا بباص صغير مع عائلة أخرى إلى المخيم

قلت له أن اصبر ساعةً أخرى، إن جاؤوا مبشرين بمباشرة الرحيل، سلكنا طريقنا وإن تجاوزت الساعة لنا أن نعود أدراجنا، ونبحث عن منزل آخر يؤوينا.. مضت بضعة دقائق، واتصل أحدهم يخبرنا بأن نتهيأ لمغادرة خان الشيخ.. هممنا بركب الباص الذي جاء مخصوصاً لأخذنا، ووصلنا إلى درعا، نزلنا مرة أخرى لتناول الغداء عند قوم آخرين.. وانتظرنا مجدداً سيارةً أخرى، لتنقلنا إلى محطة ننتظر فيها انتقالنا إلى مشتل مخبّئ بأطراف البلدة..
 

انتظرنا لمغيب الشمس، وقد ازداد عدد الأشخاص من حولنا، وبعدها جيء بشاحنتين كبيرتين..
صعدنا إليهما ونحن وقوف، ومضت دقائق منتظرين القادم، فالمجهول كان حافّاً لحافلتنا، هبطنا من الشاحنة ونظرنا إلى يميننا، وإذا بأفق بعيد من أعمدة النور قد أشير إلى أنه وجهتنا هناك الأردن، وعلينا عبور هذه المسافة الطويلة بالعتم، فوق الأحجار والصخور سيراً على الأقدام، مع الحمولة التي معنا، ومع غيرنا من اللاجئين..
 

وفي أثناء جدال طويل بين أحد الشباب مع والدتي، وهو يحاول إقناعها بأن تترك حقائبنا هنا، جاء أحد الشباب من الجيش الحر النبيل حاملاً إحدى الحقائب الكبار، بكامل الشهامة النادرة، كان موقفاً بطولياً أمضى ساعات طوال وهو يحمل هذه الحقيبة، من غير ضجر ولا تململ..
 

مشينا طويلاً والسماء، تبكينا شوقاً، شعور أخذني لقبل ألف وأربعمئة عام.. إلى هجرة المصطفى من موطنه من معشوقته مكة إلى المدينة لولا أنهم قد أخرجوه لما خرج، ولولا أنهم أرادوا بنا كيداً، لما خرجنا كذلك! هو قد غير طريقه وسلك طريقاً وعرةً وطويلة،ونحن أيضاً تتبعنا ذات الخطوات، الموقف يعيد نفسه في زمن آخر، مع اختلاف شاسع بين الشخوص، فهو سيد البشرية وصحابته خير البشر، ونحن كثيرو الخطايا والعثرات، لكنها الظروف تتشابه، بين هجرته صلوات ربي عليه، وهجرتنا الموجعة هي الأخرى..
 

هذه الفكرة قد أورثتني اطمئناناً رهيباً، وجعلتني أعيش دوراً جديداً، دور المغامرة المهاجر. تلوت على مسامع نفسي الكثير من الحكايا والقصص، آنست وحشتي بالله، وأيقنت أنه لن يتركنا أبداً، وسيكون كما كان دوماً نِعم الحفيظ ونعم الوكيل..
 

طريق وعر عبرناه بين تعثر وصمت وقرفصاء، ومشي وتعب، وليل هادئ الأركان نترقب فيه القادم، أخبرونا أن في الليلة السابقة، تم إطلاق نار، من قِبل عناصر الأسد وقُتل عدد من أفراد الجيش الحر، وهم يحاولون تمهيد الطريق، للعابرين..
 

كانوا هم في المقدمة، لكي يكونوا الكشّاف والعيون المبصرة، كانوا هم الرائدون والقائدون، وكأن أرواحهم من شرر النور، وأجسادهم دروع بشرية، من صناديد الحديد.. حزنت يومها على خسارتنا لهم، فهم قد رحلوا لجنة تستحقهم..
 

وصلنا أخيراً إلى منطقة الأمان، تلقانا الجيش الأردني بشهامة وترحاب كبير، استبشرت بملامحهم الطيبة وبمعاملتهم الراقية خيراً، أتممنا الإجراءات الروتينية، بعرض الوثائق الخاصة بنا وأخذوا منا جوازات السفر، وتم فرزنا إلى مجموعات، ونقلونا بباص صغير مع عائلة أخرى إلى المخيم!
 

قال لي والدي أن دخولنا إلى المخيم مجرد عبور بسيط، وأحد معارفنا قادم لينقلنا إلى منزل والدته.. وصلنا المخيم عند بزوغ الفجر.. كان الناس نيام !والمنظر مروع ومؤسف.. أطفال مرمية على بطانيات اسفنجية والذباب فوقهم يحوم ويطوف.. كنا في صحراء.. جرداء.. خالية من كل شيء سوى من الحشرات، وبعض الغرف الاسمنتية والروائح الكريهة، والمُهجرين المنسيين ..صرخت أنادي أبي: أين محمد؟ محمد الذي سينقلنا من هنا؟ بالتأكيد لن ننتظر طويلاً، للرحيل من هذا المكان؟ لم يأتِ محمد يومها..
 

دخلنا وإذ بمهجع كبير، يضم نسوة وأطفال، جلست جانباً رافضةً النوم، أخرجت(اللابتوب) مؤملةً بكل السذاجة أن أجد شبكة(واي فاي) أؤنس نفسي بها في هذا المكان البشع! كما قالت لي فتاة حمصية كانت قد شاركتنا الطريق إلى المخيم قالت: أن في الأردن شبكات انترنت متوفرة في كل مكان..
 

أذكر حميتي للفلسطينيين في مرحلة من مراحل حياتي وهوسي بقضيتهم وتوقي لمساعدتهم بنيل ما يريدون.. الآن بتُّ محتاجة لمن يتعاضد معي، لأجل قضيتي، ويربت على كتفي

تقوقعت على نفسي.. وكابرت طويلاً ألا أنام فأغفو على إحدى (الفرشات) المتسخة قمت بعدها أجول في أرجاء المخيم.. وكأنه سجن يطوقنا جميعاً.. بجرم اشتركنا به عند مناداتنا للحرية!..
فكوفئنا بهذا السجن في منتصف الصحراء.. تنقلت من زاوية لأخرى، وأنا أرى ذات المنظر.. رمال وأتربة، وشحّ بالبقع الخضراء.. لحظتها اشتقت لإطلالة منزلي في دمشق.. اشتقت لصباح يبدأ من تغريد عصفور يقف على شرفة غرفتي.. فأهم لأسترق النظر خارجاً، ناظرةً إلى الجبل الشامخ المزدان بالشجر وارف الظل.. طويل القد.. اشتقت لحظتها لقاسيون البهي، من الزاوية الشرقية لبيتنا..
 

الحرمان يذكرنا بالنعم السالفة.. بالنعم التي ما شكرناها حقّ الشكر ..عدتُ إلى المهجع الجماعي، وقد بدأ الجميع بالاستيقاظ.. وبدأ توزيع الوجبات.. ورفضت بعنفوان أخذ وجبتي.. لن أنسى ما قاله لي ذاك الشاب المتطوع: "لويش بدكيش توخذي؟! خذيها كلنا إخوان بالآخر "
وضعها بجانبي وأنا أحاول ابتلاع غصتي..
 

أذكر حميتي للفلسطينيين في مرحلة من مراحل حياتي وهوسي بقضيتهم وتوقي لمساعدتهم بنيل ما يريدون.. الآن بتُّ محتاجة لمن يتعاضد معي، لأجل قضيتي، ويربت على كتفي، كان في المخيم غرف للعوائل ينالها المحظوظون ولحسن حظنا أخذنا غرفة أنا وأمي وأبي، كانت أخف وطأةً من ذاك المهجع الجماعي المخيف، مضت أيام ثلاثة، وبعدها استطعنا الخروج، بعد كفالة محمد الشاب الأردني-الفلسطيني لنا.
 

خرجت من غير إلتفات، سأصدق القول، وأقول في الفترة الأولى وددت لو أنسى أيام بؤسي هناك، ظننت أن تهريبي من دمشق، ودخولي المخيم أسوأ ما حدث لي! وبعدها تبين لي أنه أفضل ما قد حصل، لولا تلك التجربة، لما عاينت حياة أخرى عاشها غيري، وطال عهده بها، لولا المخيم لما عرفت قيمة منزلي وجيراني الذين تعاطفوا معنا، وقيمة ناطور البناء، فقد كان يحذرنا من العودة، ويذود عنا كيد الأشرار الوادين اعتقالنا، لولا المخيم لما تعلمت درساً في التواضع وشكر النعم، لولا الظروف العصيبة والصعبة التي مررت بها، لما كوفئت بجميل الأقدار، لما صُقل قلمي، فالألم هو خير مبردٍ للقلم..
 

نعم كانت سنة ونيف من المحن، وبعدها أتت المنح.. لذا أنا لا أستعرّ بما قد مررت به، وفخورة بمسيرتي، وراضية عن قدر الله، وراضية عن كل تفصيل، حتى عن استشهاد أخي، رغم اشتياقي له، لم أتأفف يوماً من ثورتنا ولم أتنكر لها، أو أندم على اندلاعها أبداً! حريتنا لها ثمن غالٍ، وأخي دفع من دمه قسطاً لها، لذا هي نفيسة، نفيسة جداً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.