شعار قسم مدونات

السينما تعلمكم دينكم

blogs- السينما المصرية

في ممرٍ ضيقٍ لا يتعدى عرضه ثلاثة أمتار في عنبر "ج" بسجن طرة، كانت تجمعنا بعض مباريات "الإسكواش" البدائية، أو الجري بعد تقدير المسافة بالكيلومترات ذهابًا وإيابَا، وكذلك الحديث الممتع حول الكتب التي كانت تمتلئ بها الزنازين؛ فكل زنزانة كان لها ذوقها الخاص في كتبها، ولكنه لم يكن ذوقًا سجينًا مثلنا بل يتنقل فيما بيننا إما بالاستعارة أو المناقشة. في الممر حدثت صديقي أنه قد جاءتني رواية "الفيل الأزرق" الصادرة حديثًا وأني قد قرأتها، قال لي -وأنا أثق بعلمه وثقافته-: وماذا تفيد الرواية؟ بل ماذا يفيد الأدب عمومًا؟
 

الحقيقة أعتبر الأدب متعة ونافذة على حيوات أخرى وأنه يهذب ولو شيئًا يسيرًا في الإنسان، لكن عبرت لصديقي صراحة أن تلك الرواية كانت "تافهة" إلى حدٍ كبير، وقد شغلني بعد قراءتها سؤالان، أحدهما عن السر في "التلميع" المبالغ فيه للرواية والراوي من قبل الناشر، والآخر أن حديثًا يدور حول نية تحويلها إلى فيلم سينمائي، حينها ستنطق الحروف، وتتجسد الشخوص، وتتجاوز "فكرتها" أو "تفاهتها".. حدود محبي الاطلاع على الأدب الروائي إلى مرتادي السينما وعمًا قليل إلى شبكة الإنترنت ثم تقتحم بيوتنا عنوة لتشكل جزءًا من ذاكرتنا.
 

الأعمال السنيمائية والدرامية -المصرية خاصة- عن "المسلم/الإسلامي المتدين" أو الشيخ/الداعية" تمثل توجهًا للدولة عمومًا لتشكيل وعي المجتمع في حربها على التطرف أو وسيلة فعالة لمناكفة الإسلام السياسي.

أظن أن الكثيرين ممن يقدمون على انتقاد مولانا "الرواية والفيلم" لم يطلعوا بالشكل الكافي على نص الرواية، كيف لا وهي تقارب الستمائة صفحة بلغةٍ تتهتك بين العامية والفصحى، وحبكة روائية ضعيفة، وأحداث مفككة؛ لم يقوها سوى التوظيف الجيد للحوارات حول القضايا الساخنة مثل "إرضاع الكبير، التنصير، نبوة وبشرية النبي -صلى الله عليه وسلم-، المعتزلة، إنكار أو إثبات الأحاديث.." وكذلك خفة روح ودم بطلها "مولانا حاتم الشناوي" والذي جسده ببراعة عمرو سعد في الفيلم وأنقذ إلى حد كبير هذا العمل من التفكك والتيه في موضوعاته.
 

عندما قام "أنجر" و"ماتيس" وحتى "بيكاسو" بتجسيد نساء الشرق في لوحاتهم، لم يُرَد لهن أن يصبحن سجينات اللوحات، فانتقلن سريعًا إلى شاشات هوليوود، لتتكامل الصورة مع نصوص كثير من المستشرقين وتراث "ألف ليلة وليلة" ويتم إنتاج ما تسميه هوليوود "سينما الصدور والرمال" على مدار القرن العشرين. وهكذا فإن مولانا خرج من حروف إبراهيم عيسى الصحفية والروائية ليتجسد في "صورة" مثلما خرج من قبل "سي السيد" من ثلاثية نجيب محفوظ، مع عظم الهوة بين الكاتبين بالطبع، وعندما يخرج "النص" أو "الصورة" إلى الشاشة فإنك الآن أمام "أجنحة من حديد" كما يطلق فرانز كافكا على الأفلام.
 

كانت الأعمال السينمائية والدرامية -المصرية خاصة- خلال التسعينيات وبدايات القرن الواحد والعشرين عن "المسلم/الإسلامي المتدين" أو الشيخ/الداعية" تمثل توجهًا للدولة عمومًا لتشكيل وعي المجتمع في حربها على التطرف أو وسيلة فعالة لمناكفة الإسلام السياسي الذي بلغ ذروته بمسلسل وحيد حامد "الجماعة" قبل ثورة 25 يناير، ويمكننا القول أن المرحلة الحاضرة قد تجاوزت هذه الصور النمطية وآن لها أن تكون خارج التاريخ.
 

قد انتهت مرحلة تقليم الأظفار إلى مرحلة التأديب والتوبة التي يجسدها مسلسل الداعية وقد توازى عرضه مع أفول نجم الإسلاميين عام 2013، والذي مثله الداعية الجديد "يوسف" وكانت توبته الفكرية على يد الناشطة الثورية وعازفة الكمان والمتبرجة بالضرورة "نسمة" فزكت روحه بالموسيقى، وأخرجته من ضيق الدوجمائية إلى سعة التسامح ومن عطن الإسلام السياسي إلى رحابة الإنسانية وروح الحداثة. غير أن مسلسل "الخواجة عبد القادر" كان أكثر عبقرية في هذا التأديب، فهذا الخواجة السِكِّير الكافر بالطبع قد أشرب في قلبه الحب والسماع الموسيقي الصوفي حتى كان دليله إلى الله والإسلام، ليتحول إلى الولي الصالح، الخواجة عبد القادر الذي يقصد الناس مقامه وضريحه، حتى يأتي في الزمن الحاضر "عبد القادر" أيضًا ولكنه هذه المرة شاب سلفي نزق يسعى لهدم الضريح، فيناله التأديب من عوام الناس ومن أبيه "كمال" تلميذ الخواجة الذي يؤدب ابنه ويعظه بالقراءة لسيدي الشعراني والرسالة القشيرية.
 

ومن الخواجة عبد القادر إلى الشيخ "مختار" الصوفي في مولانا، ذي السمت الحسن والكلمة الطيبة، ضحية السلطة ورجل المبادئ والمتهم بنشر التشيع زورًا وبهتانًا، وهو شيخ "مولانا"؛ كل ذلك في ظروف من المفترض أنها قبل الثورة، أما مولانا نفسه فهو ليس إخوانيًّا ولا سلفيًّا بل أزهريًّا معممًا لا تملك من خلال الرواية والفيلم معًا إلا أن تحبه وتحب منطقه وتتعاطف معه فهو يواجه ألاعيب السلطة ويرفض أن يُوظف أمنيًّا، ويخدعه مسلم متطرف يدعي التنصر، ويعيش انفصامًا إجباريًّا في الشخصية بين ما يقتنع به وما يجب أن يقوله أمام الشاشة، وقبل كل ذلك مصيبته الكبرى في ابنه الصغير الذي فقد ذاكرته.
 

السينما أو الدراما شئنا أم أبينا قناة لنقل الأفكار وتشكيل الوعي، والقول بأن المسلم يمكنه أسلمة نفس الأداة "السينما الإسلامية" أمر محمود ولكنه سيكون بائسًا بدون رعاية واحترافية.

استطاع إبراهيم عيسى أن يحشد الكثير من الموضوعات على لسان "مولانا"، وأسعفه النص المكتوب على ذكر مصادر حديثه بدقه، حيث يشبه هذا الأسلوب بشكل أو بآخر أسلوب يوسف زيدان في روايته "عزازيل"، غير أن أهم موضوع أو كما يحب أن يسميه أصحابنا "شبهة" هو تدليس مولانا "الذي أتفهم حيرته" في عقيدة المسلم فيقول: "في الحقيقة أني لا أضمن لك أنك ستدخل الجنة لو ظللت مسلمًا، كما أنني لست متأكدًا أنك ستدخل النار لو كنت مسيحيًّا، لأني مؤمن أن الله عز وجل يشمل برحمته البشر كلهم، مسلمين ويهودًا ونصارى وملاحدة.

وهذا الاقتباس هو حقيقة ما يهمني في رواية /فيلم مولانا، فهو يشكل عندي رؤية استشرافية لـ "ما بعد مولانا"، لأن مولانا الذي تعاطفنا معه من قبل، وقع في شراك "نشوى" في الرواية وفي الفيلم، وسقطت زوجة "مولانا" في الزنا في الرواية ولم يخبرك الفيلم بذلك بأمر الرقابة؛ لقد سقطت جميع حصونك يا صديقي فلم يبق لك إخوانيّ ولا سلفيّ ولا داعية جديد ولا حتى أزهري مؤسساتي كان قنطرة واحترقت هي الأخرى، ولأنك أحببته فستجد صدى لتدليسه في نفسك، وإن أردت العودة إليه فلن تجده وإن وجدته فستذكر تقيته وسقوطه في الرذيلة.
 

إن مولانا البائس المُلهِم يمهد لمولانا "اللأدري" الذي ربما تسطر أحرفه الآن في أحد الروايات حيث يشك في إيمانه، وتنتقل قضية الإلحاد من "مخيلة" قصاص إلى طموح منتج سنيمائي إلى إبداع مخرج يحسن تصوير "الواقع" أو بالأحرى "اختراعه". هذا لأن التغيرات في المجتمع إنما هي كدبيب النمل، وكما قال روبرت فيسك: "أتوقع أن تصبح السينما الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن نستعين بها للتأثر في العالم".
 

السينما أو الدراما شئنا أم أبينا قناة لنقل الأفكار وتشكيل الوعي، والقول بأن المسلم يمكنه أسلمة نفس الأداة "السينما الإسلامية" أمر محمود ولكنه سيكون بائسًا بدون رعاية واحترافية، بل على الشاب المسلم عبء أكبر في تشكيل حصونه بنفسه، والنحت في الصخر ليكتسب العلم النافع ويصنع وعيه من داخل نموذجه الإسلامي الخاص؛ حتى لا يكون قلبه كالإسفنجة يتشرب كل شبهة أو كل مشهد سنيمائي، وليكن في النصيحة الذهبية لـ "مالكولم إكس" دافعًا له "إذا لم تطوروا لديكم المقدرة التحليلية لقراءة ما بين السطور فيما يبثونه، فإني أحذركم مجددًا، أنهم سوف يبنون أفران غاز، وقبل أن تستيقظوا.. سوف يضعونكم فيها".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.