شعار قسم مدونات

قديم.. يطرق أبواب الخامسة

blogs - human
بعيدًا عن تداعيات الأحداث التي تسارعت مؤخرًا، ونفورًا من المواقف المعقدة التي تعانيها المنطقة؛ لم يفاجئني كثيرًا كلام صديقي القديم الذي يخوض المرحلة الرابعة من حياته الفكرية، وهو يعطي انطباعًا يعبّر بوضوح عن أزمة حقيقة تطوق فئة معيّنة من شباب (الفكرة) باعتباره أحد النماذج التي كانت فيما مضى وضّاءة، وفي أحيان ما.. مُلهمة.

أحدهم جعلني أطلع على ما كتبه الصاحب القديم على جدار مجتمع افتراضي يستقطب مختلف التوجهات؛ فوجدته قد تعمّق في فلسفته إلى حد جعلني أتصور أنه أمسى يقف على شفا جرف هارٍ، تبدو في أسفله علامات المرحلة اللاحقة التي أرجو من الله ألا تكون كما أتوقع، وأن تغدو ظنوني بشأنها مجرد خيالات تخاصمها الحقيقة بشدة.

تحول الأخ القريب إلى مجرد شخص أعرفه، ولربما التقينا بشكل عابر في مناسبات معينة كصلاة جمعة أو تراويح في مسجد قادنا الحنين إليه، أو في أيام عيد؛ لكنه في كل الأحوال مجرد لقاء عابر لا يستغرق وقتًا أكثر من إلقاء السلام والرد عليه.

كان صديقي أخي؛ قبل أن يختار الانعطاف في خط سياسي مغاير، ويشذ مع قوم آخرين عن روح الفكرة وحقيقة المنهج، فلم يمنحهم هذا الخروج إلا تطرفًا وزيغًا جعلهم يعتقدون أن من لم يلحق بهم هو خصم عنيد لا يمكن أن تجمعه بهم صحبة فضلاً عن الثقة، ثم تمادت لغة خطابهم حتى بلغ التوصيف مبلغًا صنّفوا الأشخاص بموجبه على أساس المفاصلة والعداوة.

نعود إلى صاحبنا؛ ففي مطلع أول عقد من الألفية الثالثة؛ كان كغيره في نظرنا صاحب قضية، يتبنى منهج التربية -تربية المسجد على وجه الخصوص- وكثيرًا ما كان "يُحاضر" عن تنمية روح الجهاد، وكانت أشعاره ونتاجاته الأدبية -على محدودية تداولها- غزيرة بهذه المعاني، وثمة تفاصيل أخرى في هذا المجال لا مصلحة من البوح بها.

ولما تغير مسار التاريخ في العراق باحتلاله، توجه إلى السياسة وترك ما كان عليه، مخالفًا ما كان يعتبره ركيزة أو يعده أساسًا لكل سلوك، وليته ترك منهج التربية فحسب وانشغل بمهنته الجديدة، فقد بالغ كثيرًا في الانعطاف وأخذ يتكلم في ذم ماضيه الدعوي إلى حد بلغ به أن يشتم المقاومة وينفي لزوميتها ويحارب وجوبها، فقط لأنها تحول دون إتمام مشروعه السياسي!

غاب أحدنا عن رؤية الآخر ردحًا من الزمن، وفرقتنا الأحداث فأصبح كل واحد منا في مكان؛ صاحبي منشغل بجامعته صباحًا، وبعد العصر وبقية اليوم كان قد سخر نفسه وجهده لعمله السياسي الذي تصاحبه جلسات مغلقة للتنظير، وأخرى معلنة للترويج، علاوة على بعض المغامرات في منظمات المجتمع المدني.

وتحول الأخ القريب إلى مجرد شخص أعرفه، ولربما التقينا بشكل عابر في مناسبات معينة كصلاة جمعة أو تراويح في مسجد قادنا الحنين إليه، أو في أيام عيد؛ لكنه في كل الأحوال مجرد لقاء عابر لا يستغرق وقتًا أكثر من إلقاء السلام والرد عليه.. وأحيانًا دون مصافحة!

سنوات الاحتلال رغم أنها ثقيلة، لكنها مرت بسرعة، وكأنك في ليلة شتائية غاب عنها القمر؛ ترقب سحبًا مثقلة ببَرَد لا تدري أين ستقذفه وهي تجري بعصف من الريح العاتية ذات صرير يسلب النوم من المقل، ولم تكد تنقضي عشر حجج منها؛ حتى علمتُ أن صاحبي دشّن مرحلة فكرية ثالثة، بعدما تبين له عدم جدوى عمله السياسي، وفشل مشروعه في تحقيق ما يصبو إليه، أو بالأحرى ما توهم أنه مشروع وهو في حقيقته مجرد اتباع وتنفيذ لخطوات أمليت عليه وعلى من معه حتى صاروا أدوات وآلات يُتحكم بها.

قد تملك صديقي النسيان، فلم يصمد أمام أول ضربة وجهها له من جعلهم في مرمى سهامه، وصعب عليه أن يجد جوابًا ليقنعهم بأن "التجربة السياسية" التي خاضها؛ ليست هي من قادهم إلى هذا الاتجاه، بل لم يستطع أن يدافع عن الإسلام ومنهجه في الحياة.

هجر مشروعه السياسي، واتجه إلى خط إعلامي يتعلق بـ(الهوية)، وحين حاول أن يجمع من بين شتات ذاكرته بعض المنطلقات، كان ركام تجربته الأخيرة يحيط به من كل جانب؛ فضاعت بوصلته وأخذ يشرق ويغرب، فأطلق حكمه على العراق بأنه وهم، ومجرد تراب سرعان من ستكون لعوامل البيئة دور في ذره.. وقرر أن الحل هو في الانعزال والانزواء في بقعة أرض يسيمها إقليمًا، متوهمًا أنه سيحفظ لأهل السنة عقيدتهم ودماءهم، ومتجاهلاً أن أرض العراق وقف لا يجوز التفريط به، ومتنكرًا لمدن أسسها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يتبعهم هو أولى بالحفاظ عليها ممن يعادونهم ويستوردون من التاريخ أكاذيب وأباطيل يوظفونها في خطابهم.

وكالعادة، فشلت خطوته الثالثة، فمن الطبيعي أن ينهار مشروع لا يقوم على منطق، ويتبناه عاطفيون يقودهم متآمرون خادعون، يهاجمون ذوي البصيرة والرؤية المعتبرة، ويحملونهم أسباب عجزهم، مثلما هاجموا المجاهدين وغدروا بهم وانحازوا إلى الاحتلال ضدهم.

ثلاث أثافٍ هشة لم تتحمل ثقل القِدْر.. فانهارت وانكفأ، وتبعثر ما كان فيه من طعام، ليكتشف صاحبي الطاهي أنه لم يكن ناضجًا، فلم يتأسف عليه، بل انتابته سعادة مفرطة لأن ما كان مفترضًا أن يتناوله ليس صالحًا للأكل، لكنه وفي غمرة فرحه نسي أنه جائع، فسقط متلويًا يوشك أن يغشى عليه!

وهو في رمقه الأخير؛ قرر خوض الجولة الرابعة، ووجدته هذا اليوم قطع بضعة خطوات في مسار الجدل العقلي والنقاش الفلسفي، يقول مبررًا؛ إنه يريد مواجهة أصحاب الأفكار التي بدأت بعض طفيلياتها تنمو في المجتمع المحيط به، فأخذ يصنف أفراده ما بين إلحاديين ويساريين وما على هذه الشاكلة.

ولأن جولته في الحياة كانت مرهقة، فقد تملكه النسيان، وأخذ يخلط بين المفاهيم، فلم يصمد أمام أول ضربة وجهها له من جعلهم في مرمى سهامه، وصعب عليه أن يجد جوابًا ليقنعهم بأن "التجربة السياسية" التي خاضها؛ ليست هي من قادهم إلى هذا الاتجاه، بل لم يستطع أن يدافع عن الإسلام ومنهجه في الحياة حين يهاجمه أصحاب تلك الأفكار وفقًا لما تمليه عليهم أدبياتها التي تسخر جنودها لانتقاد الدين والتهجم على منهج الإسلام؛ لأنها زرعت في عقولهم خلطًا بين الثوابت والأصول وبين أخطاء بشرية في التطبيق طرأت على المسار.

في آخر المطاف يا صديقي.. إن نجوت مما أنت فيه اليوم فقد آن لك أن تتقاعد، وألا تحاول طرق أبواب مغامرة خامسة، لكني أمنح نفسي تفويضًا لأخاطبك باسم الفكرة؛ بأن أحضانها ما تزال مشرعة ويمكنها أن تؤويك، فإذا كانت عندك بقايا وفاء للأصالة؛ فإني أعدك ببعض التنشيط قد يرجع بك إلى المربع الأول، الذي ستجد فيه غذاءًا يؤهلك للنضج ويمنحك القوة لمواجهة شدة التيار والتصدي لأمواج الأفكار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.