شعار قسم مدونات

وجهة نظر إدوارد سعيد

blogs - كتب ونظارة
لا يمكن لنا اليوم متابعة الانعكاس الجدلي من هنا أو هناك لأشكال الالتقاء بين الحداثة من جهة، والأشكال الثقافية والاجتماعية والسياسية التقليدية من جهة أخرى، على الأقل في إطار ما أصبح يبدو لي محتما أن ننطلق من نتيجة أن تعدد الأشكال التبادلية والاقتباسات التي غدت تثبت بين بعض النماذج من السلوكيات، واردة عبر لوازم جلية أو ضمنية لحداثة ولنماذج موروثة من عادات خاصة.

ولعل هذا التعدد ليس إلا خلاصة لغنى المجتمع البشري، رغم ما يلاحظه س.ن. ايسنستاد من أن التحديث أو الحداثة تكون نموذجا حضاريا في أعماقه الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، فيما يخص أوربا الغربية فرضت من الآن فصاعدا في العالم بأكمله، إذ لم يبق شيء أقل بعدا من تدمير الثقافات التقليدية، بينما توجد الحداثة مؤولة ثانية في معنى الأنثروبولوجيين عبر مختلف الوحدات الثقافية. وأشكال هذا التأويل مرتبطة في الوقت نفسه بمميزات الثقافة الأصلية، والظروف التاريخية اللتين يتأسس بحسبهما ويثبت الالتقاء مع الغرب.

ففي خطاب أساسي لتحديث وحيد كنتيجة وكقيمة تحل تعددية التحاليل الخاصة، نقترح هنا الإتيان بمساهمة في خطاب سوسيولوجي إجمالي لتعددية قضايا الحداثة، صحبة تحليل بعض خصوصيات مثاقفة العمال المهاجرين في فرنسا. وفي هذا الإطار يجب الإشارة إلى أن ساكنة مثل هؤلاء المهاجرين المنحدرين من مجتمع تقليدي، يوجدون أصلا في مواجهة مع متطلبات المجتمع الذي يقيمون فيه، والذي يعتبر بشكل من الأشكال مجتمعا حديثا. وانطلاقا من هذا المثال المتميز والخاص، سنحاول تفسير وتوضيح بعض الأشكال التي تتمثلها قضية المثاقفة مع الحداثة والحدود التي تحدها.

العمال المهاجرون لا يشكلون شعبا متجانسا، بل يختلفون بعضهم بعضا، من حيث وقت الهجرة مقابل تاريخ مجتمع الأصل ومجتمع المهجر.

أما اللقاءات التي شهدتها فرنسا حول موضوع العمال المهاجرين الأجانب، فإنها لم تشكل في حقيقة الأمر إلا حالة خاصة من مواجهة واسعة جدا. إذ توبع التضييق السياسي لبلدان أوروبا الغربية، منذ الحرب العالمية الثانية، بنشر الحداثة الغربية بخصوصياتها الأساسية: للوطن الأم، ثم الميل إلى العقلنة المتمثلة في النظام الاقتصادي. هذا النشر للحداثة يقود إلى نوع من المواجهة الثقافية عامة: وهكذا أدت الوضعية الاستعمارية لتليها بعد ذلك الوضعية الاستقلالية، إلى إعادة طرح لاحق من أجل البحث بشكل مباشر في الثقافة الغربية، كما هو الشأن بالنسبة للثقافات "الأهلية" الواحدة منها تقابل الأخرى، حتى وإن كانت المواجهة تدور في مواضيع غير متكافئة. ويمكن للأثنولوجيا أن تؤول بدورها كمعطى ثان للبحث في الثقافة التي ينتمي إليها الاثنولوجي بقدر الثقافة التي يلاحظها هو، حيث لا يلاحظ الآخر إلا عبر أصناف ثقافته الخاصة، ومع كل ذلك تمثل المواجهة الثقافية المؤسسة إبان هجرة العمال المهاجرين أحد الأعداد المميزة.

أما العمال المهاجرون، فلا يشكلون شعبا متجانسا، بل على العكس يختلفون بعضهم بعضا، من حيث وقت الهجرة مقابل تاريخ مجتمع الأصل ومجتمع المهجر، ويختلفون أيضا من حيث المسار الشخصي الذي يلي الهجرة. ولعل الموضوع الحقيقي للتحليل السوسيولوجي ـكما يكتب بدقةـ لا يتكون فقط من المهاجرين، بل يتكون أيضا من الفئات المهاجرة التي تعرف سكانا لهم نفس الأصل في مرحلة معينة.

وسنحاول جاهدين رغم تنوع ظروف وشرح الهجرة وأشكال المثاقفة، إبعاد ما يميز وضع المهاجر مباشرة، إذ ليس مجال الحديث هنا عدم قبول الاختلافات بين الفرق، أو العودة إلى تعليل إجمالي، بقدر ما هو محاولة تحليل الخصائص المشتركة لكثافة سكانية، ذلك لأنها ناتجة مباشرة عن أوضاع السكان المهاجرين المواجهين لنفس متطلبات المجتمع الحديث. حيث لا يمكن التحدث عن "المهاجرين"، إضافة إلى أنه لا يمكن أن نحلل مجتمع الإقامة على أساس أنه يشكل كلا متجانسا، ليس لأنه يتضمن تنوعا ثقافيا مرتبطا بالأشكال المختلفة للامساواة الاجتماعية والمشاركة غير العادلة، فيما يمكن تسميته حسب هالبواكش "بالبيت" المشتمل على القيم المشتركة ليس إلا، ولكن أيضا ينسحب هذا أيضا على كل مجتمع، حتى بالنسبة للمجالات الأكثر تعرضا وخطورة، وذلك مخافة أن تكون قد مست بالعقلنة. ويتضمن كذلك مختلف المكونات التقليدية والحديثة كما سلف أن قلنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.