شعار قسم مدونات

صور الحب في التراث الفلسطيني: غبيشي وحسناء نموذجا

Palestinians perform a traditional dance during a fashion show in celebration of Palestinian Traditional Dress and Heritage Day at Haddad village near the West Bank city of Jenin, July 25, 2016. REUTERS/Abed Omar Qusini
"بفعل عدم مقدرة الفلسطينيين الجمعية في إنتاج قصة سردية مقنعة لها بداية ووسط، ظل الفلسطينيون مشتتين وضحايا عاجزين سياسيا أمام احتلال لا يزال يستولي على الأرض والتاريخ" إدوارد سعيد
 

تحدث إدوارد سعيد عن الارتباط العضوي بين الذاكرة والهوية القومية الفلسطينية، ليس كمجرد مسألة نظرية، بل كونها علاقة عضوية بين المكان والذاكرة والاختلاق، وذلك عندما تحدث بأن اختلاق الإرث هو ممارسة تستغلها السلطات المُهيمنة بوصفها أداة حكم في المجتمعات في إطار تفكيكه للذاكرة كونها ليست بالضرورة أصيلة إنما هي نافعة، ومن ناحية أخرى قدم سعيد محاكاته للتعامل مع الفن والشعر والرواية بأنها واقع ولكنها ليست الواقع نفسه، فأي شخص يحسب ذلك واقعا ويعامله حرفيا يكون قد شوش نظرته للأشياء بشدة.
 

وما أحاول أن أقدمه هنا؛ هو فهم جدلية العمل الجمالي للثقافة عند تراجع قوة "التابع" السياسية والاقتصادية، حيث يبرز الحديث عن الثقافة كأداة نضالية، مع ربط ذلك بالعلاقة العضوية لدور النُخب بين الماضي والحاضر في إطار المراجعة الثقافية، وذلك بالاحتكام إلى السياق وعناصره.
 

لا شك أن قصة حب "غبيشي وحسناء" – وإن اختلف السياق- لا زالت حية، حيث تظهر هذه العلاقة العديد من الصور التي تتمثل في كونها تعبيرا عن صور يعكسها التراث كونه يُحاكي الواقع.

تُعد الأغنية الشعبية ركيزة أساسية في التراث الفلسطيني، والذي يرتبط بشكل عميق مع منطقة "بلاد الشام" والدول العربية نظرا للعوامل والقيم المتعددة المشتركة بين دول المنطقة، فالتراث تعبير يستقي منه الخلف تعاليم الماضي لنقلها إلى الحاضر، وتنبع أهمية التراث الفلسطيني على وجه الخصوص كونه يُجسد صورا كفاحية مرتبطة بالكفاح والنضال منذ الانتداب البريطاني، حيث يروي التراث الفلسطيني قصصا ذات إطار سياسي ومضمون وطني عدا عن صور الحب والجمال والعشق للوطن والحبيبة؛ فكثير من الشعراء الذين شاركوا في الثورة كان لِأَشعارِهم أثر كبير فـي نفوس أفراد الشعب؛ فالمقاومة الفلسطينية قدّمت عددا من رموز الأغنية الشعبية في فلسطين.
 

استوقفتني أغنية "حيد عن الجيشي يا غبيشي قبل الحناطيرِ ما يطلُّوا" كونها إحدى الأغاني الشعبية الفلسطينية التي راجت في أربعينيات القرن العشرين، وذلك إبان الانتداب البريطاني، حيث جسد الأديب حسين اللوباني قصة "غبيشي" وهو شابٌ شجاع أحب فتاة تُدعى "حسناء"، وقد تقدم الشاب "غبيشي" لخطبتها لكن عائلتها رفضت مصاهرته لأنه من عائلة صغيرة وقليلة الشأن، بينما عُرِفَ عن المختار والد "حسناء" الجاه والنسب، وهذا الرفض لم يثن "غبيشي" عن هدفه، فقد عاد مرات عدة لطلب يد "حسناء" للزواج لكن دون فائدة.
 

وبعد ذلك قرر "غبيشي" أن يتزوج من "حسناء" ويهرب معها للعيش في قمة جبل بعيدة عن القرية، وبعد زواجهما اشتط جنون والد "حسناء" وأقاربها على فعلة "غبيشي"، فاستنجدُوا بالقائد الإنجليزي "جون غلوب" قائد قوات إمارة شرق الأردن في عهد الانتداب البريطاني بين العامين 1939 – 1956، والذي تعهد لوالد "حسناء" بإحضار رأس غبيشي، فاصطحبَ معه كتيبة من الجنود والحناطير والمصفحات، مدجَّجين بالأسلحة والرَّشَّاشات وشرعوا بالبحث عن "غبيشي وحسناء".
 

وذات يوم لاحظت المحبوبة "حسناء" أصوات ضجيج عساكر وحناطير، فطلبت من "غبيشي" كف الشر وتحييد نفسه عن الجيش قبل مجيئهم خوفا عليه وحبا له، وتقول الرواية أن غبيشي تمكن من دحر جنود القائد الإنجليزي، لكنه أصيب إصابة بالغة كانت سببا في موته لاحقا.
 

لا شك أن قصة حب "غبيشي وحسناء" – وإن اختلف السياق- لا زالت حية، حيث تظهر هذه العلاقة العديد من الصور التي تتمثل في كونها تعبيرا عن صور يعكسها التراث كونه يُحاكي الواقع؛ وليس بالضرورة أن يكون الواقع نفسه؛ ففي سياقنا الحالي باتت صورة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المأزوم والمنقسم مُعضِلَة حقيقية، تزيد على المعضلات التي شكلت بنية التراث الشعبي، وقد ظهرت هذه المعضلات كإفرازات للتحول في بنية النظام من حالة التحرر الوطني إلى بناء الدولة، فالفعل الثقافي هو فعل سياسي لا محالة، فالسلوكيات المُتبعة من قبل "نُخب التابع" مع "المُستَعمِر" لا زالت موجودة حتى وقتنا الراهن، فهي لم تتغير إلا في الأسماء، فما زال القائد البريطاني"غلوب باشا" حاضراً في المشهد الفلسطيني وإن اختلف السياق.
 

فقد بات مشروع نتنياهو – ليبرمان "العصا والجزرة" أشبه بحالة القائد البريطاني، حيث تتشابه الحالتان في كون الاستعمار فيهما يسعى إلى التعامل مع مجموعة من القيادات المحلية، وذلك في إطار خطتهما لمواصلة التنسيق مع نُخَبٍ تقوم بإدارة الحياة المدنية في الأراضي الفلسطينية، تعمل بمعزل تام عن أي بعد سياسي، وفي ذلك استمرار لضرب وحدة المجتمع الفلسطيني، حيث تهدف هذه السياسة التي تختار بين "الأخيار والأشرار"، والتي تسعى لتوظيفها في حياة المواطن الفلسطيني اليومي من أجل إلغاء وحدة التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني، وذلك عبر كي الوعي التحرري من خلال فرض تكرار لسلوك قائم يُهدف من خلاله إلى العودة إلى منطق "روابط القرى"، والتعامل مع هيئات محلية تتحكم في إدارة مناطقها كل على حدة وبشكل لا مركزي.
 

وعلى ما ورد، يذكر جميل هلال بأنه لا يمكن أن يُضطلع اليوم عند تحليل بنية النظام السياسي الفلسطيني في ظل تغول النظام الاستعماري الإستيطاني عن "الانقطاع الحاد بين نخبة لها القرار بشؤون الحكم الذاتي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبين عامة الناس المُنشغلة بشؤون حياتها اليومية، لا بما تُقرره النخبة"، ومن هنا يبدو لنا أن قصة "القائد البريطاني" ومشروع "العصا والجزرة" سيواجهان صور الفشل لو عُقدت انتخابات الهيئات المحلية الفلسطينية، والتي كان من المقرر لها أن تُعقد في الثامن من الشهر الحالي 2016.
 

يستوجب الآن أن يتم البحث عن خطاب ثقافي ديمقراطي فلسطيني يتركز على منظومة قيمية إنسانية تستوجب إعادة البحث في الثقافة القيمية للحرية والحريات.

ففي تكريس خيار الانتخابات رفضٌ لأي خطط وممارسات تؤثر على استئثار النُخب الحالية على مواقعها، ورفضٌ للاحتلال والحكم الذاتي، فقد شكلت انتخابات 1976 التي أتت رداً على محاولة الاحتلال في سبعينيات القرن الماضي استخدام البلديات لتكريس مفهوم الحكم الذاتي، حيث أفرزت الانتخابات حينها قيادات محلية وطنية حولت البلديات حينها إلى رافعة للمشروع الوطني الفلسطيني في الداخل وأكدوا على رفضهم الحكم الذاتي.
 

فالانتخابات البلدية كبداية لانتخابات تشريعية ورئاسية، وفي ظل انسداد أي أفق سياسي؛ تُشكل لبنةً لبناء شراكة وطنية، فلا بديل في الوضع الحالي إلا وجوب تكريس صور الشراكة كضمان رئيسي. حيث إن حالة الواقع الفلسطيني الداخلي تستوجب تحقيق تقدم في الخطاب الديمقراطي ودولة القانون، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان، وتوسيع رقعة المشاركة السياسية، وتعميق التعددية والتنافس على السلطة عبر الانتخابات، وتعزيز الحوكمة، وغير ذلك سيؤدي بنا إلى تكريس مشهد والد المحبوبة "حسناء"، في ظل تصاعد خيار شعبوي ومجتمعي نضالي تمثل في الهبة الجماهيرية الأخيرة واستمرار سيطرة نُخب تتحكم في زمام المشهد السياسي وتعمل على تأزيمه.
 

خلاصة القول، إن الثقافة الفلسطينية كانت وما زالت ماثلةً في وقائع النضال والكفاح الفلسطيني منذ ثورة 1936، حتى في ظل وهن بنية النظام السياسي الفلسطيني، حيث ما زالت الثقافة تُشكل علاقة عضوية لصور تمثيلية بين الماضي والحاضر، وما يستوجب الآن في ظل الضعف السياسي والاقتصادي أن يتم البحث عن خطاب ثقافي ديمقراطي فلسطيني يتركز على منظومة قيمية إنسانية تستوجب إعادة البحث في الثقافة القيمية للحرية والحريات المدنية والسياسية كأداة ثورية نضالية شعبية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.