شعار قسم مدونات

الباصات الخضراء

Syrian government green buses carry fighters and their families during evacuation from rebel-held zones in Aleppo, Syria, 15 December 2016. The evacuation of Aleppo began on 15 December as the first ambulances and buses extracted the sick and wounded from final rebel-held zones in the northern Syrian city, the Red Cross NGO said. Reports state the first batch of 951 gunmen and their families were evacuated via al-Ramouseh crossing to Aleppo southwestern countryside.

لا يفقد النازح أكثر مما يفقد من روحه وكيانه على أعتاب منزله وبلدته ومدينته وهو يغادرها وتتلاشى بالأفق أمامه في مشهد وداعي هز حتى كيان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يودع مكة " يا مكة والله إنك أحب بلاد الله إليّ ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت"

 

فكيف بالنازح إذا كان يشاهد أهل بلدته عن بكرة أبيهم ينتزعون انتزاعا من ديارهم وأرضهم ليُلقى بهم إلى المنفى.. في "الباصات الخضراء"!

المنفى هو الاقتلاع القسري لشخص من وطنه، والتهجير الجماعي لأهل بلدة هو أقسى أنواع النفي حيث الأرض تودع كل ما عليها، ولا تدري هل يعود أهلها إليها مجدداً أم يُغرس آخرون لينسبوا أنفسهم إليها في قادم الأيام وهي تلفظهم بكل ما أوتيت من قوة بلا جدوى.. فالحكم للأقوى وفي كثير من الأحيان للأقسى.

 

في التغريبة السورية باتت الباصات الخضراء أيقونة التهجير الذي يلي كل هدنة ويتبع كل تهدئة، "الموت من أمامكم، والباصات الخضراء خارج حدود البلدة فأين المفر" هذا لسان الحال والمقال الذي يفرض على مئات ألوف المدنيين المحاصرين منذ أيام وشهور بل وسنوات بلا أدنى مقومات حياة!

 

الباصات الخضراء التي ارتبطت في ذاكرة المواطن السوري بتلك القفزة النوعية في وسائل المواصلات حيث الباصات الواسعة ذات الرفاهية التي حلت محل "السرافيس" باتت اليوم معلما بارزاً لن يمحى من ذاكرة كل سوري كرمز للتهجير القسري والاقتلاع من الجذور.

 

الباصات الخضراء تملأ الساحات وتبدأ بالانطلاق من ضفة الأرض والوطن إلى ضفة المنفى حتى إذا ما أوصلت فوجاً جاءت لتأخذ غيره.. لا تشبع تلك الباصات من المهجرين، كلما امتلأت قالت هل من مزيد!

بدأت الحكاية في حمص القديمة، حينها لم يدرك المهجرون أنهم سيكونون الطعم الأول لوحش لن يبقي ولن يذر ولن يكتفي ببلدة وبلدتين أو حتى أحياء في مدن كبرى.. فعملية التهجير القسري التي بدأت من حمص القديمة لم يتوقع أحد أن تصل إلى تهجير أحياء حلب الشرقية والحبل على الجرار..

 

في يوم الرحيل المحدد يتوافد المراقبون والجهات الراعية للاتفاق بعد مفاوضات استمرت لشهور، وتأتي الوكالات الدولية لتبارك التهجير القسري الذي سيتم، المشهد أشبه بالدراما، كل شيء كما يريد المخرج، والمشهد قد تكرر كثيراً حتى ألفه الناس فباتوا أشبه بممثلين متقنين لأدوارهم يحيط بهم كومبارس محترف مارس الدور في بلدان كثيرة لن تكون سوريا آخرها كما تشير الأوضاع.

 

عند ساعة الصفر تبدأ الباصات الخضراء بالتدفق وتبدأ الجموع بالصعود، حيث لا وداع إلا وداع الأرض؛ أما الجيران والأقارب فكلهم إلى ذات المصير.. الكل نحو المنفى.

 

تصور العدسات اللحظات الأخيرة للمهجّرين وهم يودعون كل شيء حتى ذرات الهواء، يحاولون ملأ رئتيهم بأكبر قدر من نسيم الوطن، تبرز العدسات تفاصيل تحاول العين تجاهلها.. قهر يبدو على رجل أربعيني لا يملك سوى زفرة تختصر حصار سنوات، ودموع شيخ تسعيني كان قد جهز قبره لتضم أرضه رفاته، وأم ثكلى تودع قبور أبنائها الذين قدمتهم فداء لهذه الأرض..

 

الباصات الخضراء – والتي لا تحمل من دلالات لونها سوى الاسم – تملأ الساحات وتبدأ بالانطلاق من ضفة الأرض والوطن إلى ضفة المنفى حتى إذا ما أوصلت فوجاً جاءت لتأخذ غيره.. لا تشبع تلك الباصات من المهجرين، كلما امتلأت قالت هل من مزيد!

 

يتابع المشرق والمغرب عملية التهجير بصمت عبر شاشات التلفاز، ولا يمتلكون من تعاطفهم سوى بضع دولارات يتبرعون بها للمنفيين على حدود الوطن أو في الضفة الأخرى..

 

في الجانب الآخر يجلس المفاوض والكومبارس مع أسيادهم بفخر؛ لقد أتموا مهمة التهجير، وأسدلوا الستار على فصل جديد من فصول المسرحية، يشربون كأس الوطن.. وعيونهم على الخطوة القادمة.. البلدة القادمة.. والباصات الخضراء تنتظر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.