شعار قسم مدونات

الشبكات العنكبوتية.. بيوتٌ واهية

blogs - social media
أنت حر، لك أن تكتب اسمك كما جاء في بطاقة الهوية وتنشر صورتك الحقيقية أو أن تختار اسماً غريباً وصورة أحد نجومك المفضلين. أخبرنا عن سنك ودينك وآرائك السياسية ومسارك الدراسي والمهني.. إن شئت طبعاً. لم لا تضيف مقولة شهيرة صارت مبدأك في الحياة؟ كتبك المفضلة أو أفلام تجذبك أو صفحات شيوخ تحبهم في الله؟ العالم الافتراضي يسهل علينا عملية اختيار من نريد أن نكون. تسوق مجاني لكتب وأفكار وهويات وميولات وشخصيات لا تمد لك بصلة في الواقع.
 

هكذا يبدأ الأمر، فهناك من يجيب عن الأسئلة بحماسة تلميذ في الصف الأول يخبر أصدقاءه بأن مدرسهم يكون أباه. وهناك من يطلق العنان لمخيلته فتراه يضع إعجاباً لصفحات دينية لن يلقي لها بالاً يوماً أو لصفحات الرحلات معرباً عن شغفه بالسفر والحرية في حين أن أبعد رحلاته صارت من البيت إلى الكلية أو من غرفت نومه إلى المطبخ!
 

صارت المواقع الاجتماعية ملاذاً لكثير من الشباب العاطلين عن العمل أو لمن أكرهتهم بلدانهم على تحمل الغربة أو لمن يتحينون فرصة للزواج أو الترترة أو ملأ فراغ ما باسم البحث عن الصداقة والانفتاح على الغير. كانت فكرة "مارك" حين أنشئ فيسبوك أن يبحث الفرد عن أصدقاء فرقت بينهم مسافات وأزمنة وأن يتعرف على أصدقاء جدد ويربط علاقات مع الآخر بعيداً عن الأحكام المسبقة وعقدة هذا ذكر وهذه أنثى وعن رقابة الأب والأم والدين وعن ثقل عادات مجتمعاتنا.
 

لا تصدق قلبك حين يوحي لك بأنك وقعت في غرام إنسانة بفضل صورتها أو رأيها الجريء أو تدينها الفيسبوكي، هي خدعة ولعبة لن تجيدها حتى النهاية.

نطمح بداية إلى اكتشاف الآخر لكن ينتهي الأمر دائماً بأن نتعرف على بعض الجوانب اللئيمة فينا، غرور أو قلة صبر أو انعدام ثقة بالنفس أو حسد أو طبع سادي أو حب للعب دور الضحية. شاشة المحمول غدت ذرعاً نحتمي خلفه لنظل بعيدين كل البعد عن الانتقادات اللاذعة والإحراج الذي تسببه عيون هذا الآخر الجحيم، فترى الخجول في الواقع جريئاً في الافتراضي والمهذب في الشارع فضاً في تعليقاته ورسائله.
 

في علاقاتنا مع الآخر أصبحنا لا نتقدم خطوة إلا بعد أن ندرس سيكولوجيته من خلال منشوراته، صور الحلوى أو الطبيعة وآراؤك السياسية والأقوال التي تملأ حائطك وتعبيرك عن خيانة الناس ونحيب مقتبسات روايتك المفضلة. كلها أشياء تعبر عنك مهما حاولت أن تتجاهل الأمر. ما بين الأسطر رسالات مشفرة موجهة لشخص معين في قائمة أصدقائك مهما حاولت إنكار الأمر. سيلفي ما قبل الأكل في مطعم فاخر أو أثناء حضورك مباراة أو أثناء تلقيك هدية عيد هو رسالة بأنك إنسان سعيد، لكن من يا تراك تحاول ان تغيض بذلك؟
 

صورة بحي شعبي أو بجانب أطفال فقراء أو برفقة مسنين تخليد لذكرى أم برهنة رياضية على أنك إنسان متواضع؟ فيديو خمس ثواني تقبل فيه جبين أمك في حين أنك تتأفف كلما طلبت منك أن تقضي حاجة لها لن يجعل منك إنساناً باراً بوالديه. كل حركاتنا وكلماتنا وأحاسيسنا وأفكارنا وأحلامنا وآرائنا وتعليقاتنا صارت رياء وخداعاً لأنفسنا هروباً من واقع يصدمنا بتفاصيله البسيطة وبوجهه المرعب الذي يخبر بأننا نعاني من انفصام في الشخصية.
 

وبعد كل هذه الأكاذيب التي تغرق هواتفنا الذكية نتساءل لماذا تبوء بالفشل علاقات أنشأناها بخيوط الشبكة العنكبوتية. الحب الذي ولد بعد منشور أعجبت به ليس حباً. للحب دستور واضح، فقانونه لا يحمي المغفلين ويقال إن له نظرة أولى في عين المحبوب يخفق لها القلب والروح. أما نظرة إلى صورة يمحو عيوبها الفوتوشوب فستجرنا نحو درب مسدود وحب أناني مغشوش.
 

لا تصدق قلبك حين يوحي لك بأنك وقعت في غرام إنسانة بفضل صورتها أو رأيها الجريء أو تدينها الفيسبوكي، هي خدعة ولعبة لن تجيدها حتى النهاية. والحب يا عزيزتي لا يكون برسائل إبعثي بصورة لك وأنت على طبيعتك، أحب ان أرى وجهك الملائكي كما خلقت بدون حجاب، أو بقوله أنت زوجتي ولي الحق في معرفة كل خطواتك. هذا يسمى نزوة عابرة تنطفئ ما أن تلبيها.
 

مثل هذا الإحساس الذي خلق في شبكات التواصل الافتراضية لا يدوم أكثر من بضعة أشهر وغالباً ما ينتهي بتصرفات صبيانية كأن يقوم أحد الطرفين بتهديد الآخر بنشر صوره على الإنترنت أو أن تسترد الأنثى الإعجابات التي نثرتها هنا وهناك على حائط الحبيب فتلغيها، أو أن تصدع رؤوسنا بالبكاء على الأطلال بحكم من العم هتلر عن عدم الثقة بالعدو أو بتغيير وضعها من مخطوبة إلى عازبة حرة تحب الحركات النسائية وكتابات "سيمون دو بوفوار" مع إنها لم تقرأ منها شيئاً. الزواج الفيسبوكي ينتهي بطلاق فيسبوكي بسبب سوء فهم فيسبوكي. فلا تستغرب إن استيقظت يوماً ووجدت نفسك مطلقاً أو مخلوعاً، مرمياً في قائمة المحذوفين والأعداء الافتراضيين، فإن أوهن البيوت..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.