شعار قسم مدونات

في التيه

متاهة
لا شك أن كلّ من قرأ القرآن الكريم لاحظ أن قصة نبي الله موسى عليه السلام مع بني إسرائيل تكررت كثيراً، بل إنّ ذكرها كان أكثر من أي قصةٍ أخرى، إذ إن الظروف التي مرّ بها بنو إسرائيل كانت مثالاً للمجتمع البشري الممسوخ في طريقة تصرفه وتعاطيه مع الأحداث والمستجدات ومع الحوادث والنوازل، فالقصة إذن وبلا شك تحتوي على دروسٍ حياتيةٍ عظيمةٍ وعِبرٍ كثيرةٍ وكبيرة.

فبعد هجرة أبناء يعقوب الإثني عشر من الأرض المقدسة نحو مصر واستيطانها وصل رمسيس الثاني -على الأغلب- إلى السلطة في مصر في ظل نظامٍ عسكريٍّ متسلط: «هل أتاك حديث الجنود»، تمّ في ظل هذا النظام استعباد بني إسرائيل كنوعٍ من التفرقة العنصرية التي كانت وما زالت ديدن كل الحكام المتجبرين: «وجعل أهلها شيعاً»، هذا الاستعباد مكّن رمسيس من أن يحظى بعمالةٍ مجانية قامت ببناء كثيرٍ من المنشآت الحيوية في الدولة بالسخرة، تتوالى أحداث القصة بعد ذلك ببعث نبى الله موسى، الذي كانت مهمته الأولى هي إخراج بني إسرائيل – من العذاب الذي هم فيه – نحو الأرض المقدسة: «وأنْ أرسل معي بني إسرائيل»، لا يوافق رمسيس بالطبع على ذلك وتكون النتيجة جمع موسى لبني إسرائيل والتوجه نحو الشرق، ثم عبور المضيق البحري في معجزةٍ إلهيةٍ! ليلحق بهم فرعون ثم يغرق هو وجيشه، في دلالةٍ على أن مصير الطغيان الحتمي هو الزوال بلا شك: «إن في ذلك لآية».

جيل التيه إذن هو جيلٌ يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً! وله تصوراته وآراؤه التي تجعله أبعد ما يكون عن الإنسانية، فهو يرى أن الحياة تقتصر على الأكل والشرب والإنجاب! كما أن الذل والهوان سمةٌ أساسيةٌ عنده.

العبرة الأهم والأكبر من القصة لم تحن بعد، فالعبور والخروج واصطفاء الله لبني إسرائيل وعونه لهم ليخرجوا من ربقة الظلم والطغيان التي كانوا يعيشون تحتها لم تُغيّر من الوعي الجمعي، ولا من طريقة التفكير عندهم، فمن الصعب على من وُلد ونشأ في ظلّ العبودية أن يستشعر الحرية. ومن المستحيل على من تذوق طعم الذل أن يعرف معنى العزة. حتى إنّ مهمةً عظيمةً من مهمات موسى عليه السلام كانت تتلخص فقط في تذكير بني إسرائيل بأمجادهم وفضلهم كي لا يستمرئوا الذل: «وذكّرهم بأيّام الله».

لكن جهد نبي الله لم يُفضِ إلى نتيجة، فقد أشرك بنو إسرائيل مع الله إلهاً آخر بعبادتهم للعجل الذهبي الذي صنعوه في صورةٍ واضحةٍ من صور انحطاط العقل السويّ: «ألم يروا أنه لا يُكلمهم ولا يهديهم سبيلاً»، ثم وعندما حانت موعد المعركة الفاصلة التي يجب على بني إسرائيل خوضها كي يدخلوا الأرض المقدسة فاتحين امتنعوا عن القتال مع موسى عليه السلام، وفضلّوا القعود في صورةٍ أخرى من صور تمجيد الذل والهوان التي أصبحت تجري منهم مجرى الدم في العروق: «فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون»!

لا بد بعد ذلك أن يأتي العذاب حازماً وصارماً، ولابد أن يكون درساً تتوارثه الأجيال إلى قيام الساعة، ولابد أن يكون عظةً وعبرةً للمتخاذلين والمتقاعسين: «قال فإنها محرمةٌ عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين». جيل التيه إذن هو جيلٌ يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، وله تصوراته وآراؤه التي تجعله أبعد ما يكون عن الإنسانية، فهو يرى أن الحياة تقتصر على الأكل والشرب والإنجاب! كما أن الذل والهوان سمةٌ أساسيةٌ عنده، فهو لا يمانع أن يستعبده من هو أقوى منه، بل إنه يرى في ذلك لذةً ومتعة!

الصورة تتكرر حتى بعد مرور آلاف السنين على تيه بني إسرائيل، فلقد عاشت هذه الشعوب نفس المراحل الزمنية من الظلم والعبودية نحو الحرية التي ذاقوا طعمها لوهلةً بسيطةً ثم ما لبثوا أن نكصوا، مؤثرين عودة الظلم والطغيان!

وجيل التيه هو جيلٌ بين جيلين، وهو جزءٌ هامٌ في دورة حياة الأجيال البشرية، فلا دوام لحالٍ في هذه الدنيا، فالعزة والذل لا يدومان، ولذا كان جيل التيه ضرورةً حتميةً ومرحلةً فاصلةً للانتقال بأمةٍ معينةٍ من الذل للعزة أو العكس، ومن سمات هذه الفترة ضياع هوية الأمة وثقافتها، كما أن من سماتها محاولات الأمة المستمرة والفاشلة في آنٍ واحد لتعريف نفسها وكينونتها، وأخيراً اقتتال أبنائها المستمر فيما بين بعضهم البعض، وإخراج كل الحقد والظلم الذي زرعه الظلمة والمتسلطون بين أبناء الدم الواحد.

ارجع الآن إلى بداية التدوينة واقرأها مرةً أخرى مستبدلاً كلمة "بني إسرائيل" بـ "الشعوب العربية"! صدقني سترى كل شيءٍ فيها صحيحاً، إذ إن الصورة تتكرر حتى بعد مرور آلاف السنين على تيه بني إسرائيل، فلقد عاشت هذه الشعوب نفس المراحل الزمنية من الظلم والعبودية نحو الحرية التي ذاقوا طعمها لوهلةً بسيطةً ثم ما لبثوا أن نكصوا! مؤثرين عودة الظلم والطغيان، لتبدأ فترة التيه العظيم التي نعيشها اليوم، والملاحظ أن كثيراً من جيل الآباء والأجداد كانوا من الناكصين، لأنهم عاشوا مرحلة الظلم في ذروتها، وأن كثيراً من جيل الشباب هم من الصامتين الذين لا حول لهم ولا قوة.

وستظل هذه الفترة مهيمنةً على الأرجح حتى يحين أوان الجيل الثالث الذي سيخرج من رحم المحنة والمعاناة ويستشعر مكمن المشكلة الحقيقي فيبدأ بتغيير واقعه المزري نحو الأفضل، وحتى ذلك الحين؛ أرى أن واجب كل واحدٍ فينا هو أن يغيّر من نفسه ما استطاع، فالمهمة عظيمة والحمل تنوء به الجبال، ثم أن يحاول ترك بصمته بتربية جيلٍ جديدٍ بطريقةٍ سويّة، فيربي أبنائه على معنى الحرية وعلى قيم العدالة والمساواة والتسامح وغير ذلك من المعاني السامية، فهذه هي اللبنة الحقيقية والشرارة الأولى التي ستغيّر من حال أمتنا، وهي التي سترسم طريقها نحو المجد والعزة مرةً أخرى بلا شك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.