شعار قسم مدونات

قيامة أرطغرل بين الفنِّ والسياسة

blogs-أرطغرل
كيف يكون لأمة أن تنهَض دون أن تُعير الاهتمام الكامل للفن والدراما؛ تسويقاً لتاريخها وحضارتها! وهل نستطيع فصل الفن عن السياسة! وهل تظنون أنَّ هناك من يصنع تاريخ غيره!
مسلسل قيامة أرطغرل للمؤلف محمد بوزداج والمخرج متين قوناي الذي بدأ عرضه عام ٢٠١٥ من بطولة إنغين التان (أرطغرل) وإسراء بيلقيتش (حليمة) وكثيرين. اكتسب شهرة واسعة بين الأوساط التركية والعربية بحيث تدورأحداث المسلسل في الفترة الزمنية (1220-1238م).

لن أتكلم عن المسلسل من الجوانب التحليلية السطحية للمضمون كالشجاعة، الأخلاق وبث روح العزيمة والإيمان بالله وكثير من المواضيع التي تكلَّم عنها كثيرون، ولكن سأدخل في ما وراء المشهد وتأثيراته الكبيرة.

تابعتُ أحداث الحلقات الماضية للمسلسل وما زلت مثابرا ومواضبا، فأنا أنتظر الحلقة أسبوعياً بكل لهفة؛ فتكوّنت لدي رؤيةً شاملةً للعمل وأرغب في أن أربط المسلسل فنياً سياسياً حتى نستطيع فهم الأحداث، ولِمصلحةِ مَن يَصبُّ هذا العمل.

دينياً
لاقى المسلسل استحساناً كبيراً لدى جميع الطوائف كونه مسلسل عائليّ لا يمُس أي قضايا خِلافية بينَ الطوائف المسلمة، وبالرغم مِن تسيلطِ الضوء على دورِ الجماعات المتصوفة في خدمةِ الدولة الإسلامية ودور الشيوخ العارفين في اتخاذ القرارات الصعبة، إلا أنه تمَّ تقبل الفكرة حتى من قِبَل المعادين لفكرةِ التّصوف.

كلمة "الله اكبر" وكيف أنها تبث روح العزة والكرامة والأمل التي تم تشويهها في عصرنا الحالي، مِن قِبل الجماعات الإرهابية الدَخيلة، وبالفعل تستطيع أن تشعر بعظمةِ وصدق هذه الكلمة وأثرها على نفوس المحاربين أثناء القتال فجعلتهم مخلصين بحقّ لله "الأكبر"، فقد جاء المسلسل مُسعِفاً للدين الإسلامي وأعاد هيبة مُعتنقيه وخاصةً في ظلِّ حمَلاتِ تشويهٍ متتالية؛ إذ قدمه بطريقة وسطية عصرية، فنرى المرأةَ في دورها الفعال والقياديّ الواضح بل وحتى اللباس الإسلامي المهذَّب الذي لا يُقصيها عن الوسط فأعطاها جمالية وجاذبية تليق بها كمرأةٍ مسلمةٍ مُتحضّرة.

تستطيع أن تعرف ما هو الإيمان المُتَمثِّل بالواقع والتطبيق العمليّ والإصرار على فكرة، والموت من أجلها وما أجمل أن يُضحّي المرء من أجل فكرةٍ نبيلة وتُصبحُ أعظم حينما تمسّ الوطن والأرض! هنا أستذكر فلسطين وما يقدّمه شجعانها من أجلها.

من أبرز المغالطات التاريخية كانت؛ تجاهُل المسلسل لدور الخلافة العباسية والعرب بشكل تام وتقليص دور الدولة الأيوبية في التّصدي للحملة الصليبية الخامسة ١٢١٨م، فأظهر أن هذه القبيلة الصغيرة هي مَن تصدَّت للحملات الصليببية.
سياسياً
تستطيع أن تعرف كيف هي السياسة وكيفية ترتيب الأولويات السياسية بعيداً عن كل الصِّلات العائلية والصّداقات؛ فالسياسة بحاجة إلى صلابة بطبعها.
كثير من الأعمال على الساحةِ الدرامية تحملُ رسائل سياسية واضحة، ولا شكَّ أن الحكومة التركية أدركت الأهمية الكبيرة لضرورة بثّ رسائلها في الأعمالِ الفنية، ظهر ذلك من خلال دعمها للمسلسل بشكلٍ رسمي من خلالِ توجيهها لإنتاجه وعرضه على القناةِ التركية الرسمية وأعطته زخما إعلاميا كبيراً وتجلَّى ذلك واضحاً بعد زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء السابق داوود أغلو لموقع التصوير.

المسلسل يُداعب بشكلٍ كبيرالآمال والطموحات التركية في إحياء الإرث العثماني، ولا يَخفى على أحدٍ أن أردوغان يستجلب الأمجاد العثمانية في كثيرٍ من خطاباته ومواقفه السياسية.

نُلاحظ سيطرة السياسية على القرارات الفنية، إذ إنه وبالرغم من الانتشار الكبير للمسلسل وكونه مادة فنية جذابة لعدد كبير من المشاهدين، لم نر تلفزيوناً عربياً يعرضه، وذلك لسخط الأنظمة العربية على تلك الأمجاد التي يتغنَّى بها المسلسل وعدم اتساق رؤاهم السياسية الحالية مع الدولة التركية، الاستثناء يأتي هنا مؤخراً لتلفزيون قطرالذي قام بدبلجة المسلسل وعرضه، وذلك انطلاقاً من التحالفِ السياسي التركي القطري الوثيق لا سيما إبان انطلاق الربيع العربي.

فنياً
يرسم المسلسل لوحة فنية لا تخلو من عناصرِ الشدّ والتشويق وبالرغم من القبضةِ التاريخية على الكاتبِ والمخرج التي صعَّبت المُهمة نوعاً ما، لكنها فجرت آفاقاً إبداعية جديدة، تكمن صعوبة ابتكار شخصيات درامية جديدة في كيفية تعلق المشاهد بها فعادة خيار إنهاء الشخصية من خلال قتلها يكون ضرورة إما إنتاجية أو خارجة عن الإرادة، فذلك صعب جداً من كلا الطرفين فالمخرج بحاجة لابتكار شخصية أخرى ليستمر الصراع، وبالتالي تحافظ القصة على كينونتها وصراعها، والمشاهد سيضطر لتَـقـبُّل شخصية جديدة والتعلق بها.

كمادةٍ تاريخية هناك أبطال لكنهم بالفعل يجب أن يموتوا لأن مساحة التعديل في القصصِ التاريخية أقل من القصص الاجتماعية، هنا أبدَع المُخرج والفريق الفنيّ في الحِفاظ على مستوى الحدةِ والصراع الدائم من خلالِ ظهور شخصيات جديدة تعيدُ أمجاد البطل وتعزِّز من دورِه؛ وهذا ما جعلني أستمر بالمتابعة، فلي تجارب سابقة مع مسلسلات تركية أخرى لم أستطع أن أكملها؛ لعدم وجود هذا العنصر بالذات.

اللغة التركية المَحكية بطـبيـعتها قوية فظَّة بعض الشيء، خدمت المسلسل بحيث أعطته قوة وجسارة، تمّ استخدام كلام بسيط عصري يستعرض الموافق الحياتيّة من قصص حبّ ومواقف طريفة فكاهية جذبت المشاهد بشكلٍ كبير، مع العلم بأن أحداث المسلسل دارت قبل ٨٠٠ عام.

ومن الملاحظ عملية اختيار الممثلين ذو شهرة متوسطة لأداء أدوار مهمة لشخصيات عظيمة؛ وذلك لرسم صورة ذهنية تخدم الشخصية التاريخية ولا يتم تشويهها، فالمعروف أنّ الدور الذي يَشتهر به الممثل يبقى مرافقاً له لفترة طويلة أثناء مسيرته الفنية.

١٣٥٠ شاشة عربية على الساحة، وكما يقول المثل الشعبي عالميدان يا حميدان.. فالبقاء للأقوى دوماً، فالقوة ليست فقط عسكرياً وإنّما سياساً وفنياً  فنّياً على وجه الخُصوص.

تاريخياً
بالنسبةِ إلي وعلى عكس كثيرين الذين رأوا أن المسلسل فيه مغالطات تاريخية غير مقبولة، أرى أنها مغالطات مشروعة و ضرورية لأسباب عديدة أهمها:
– لا أثق بمن يكتب التاريخ فمن كتبه أنصف نفسه بالتأكيد، ولا أرى مشكلة في أن يتم كتابة التاريخ من جديد في سبيل خدمةٍ مستقبلية، لصالح مَن يكتبه. كما أنّ الحاضر يتمّ تزويره أمام أعيُننا ، فلماذا علينا تصديق التاريخ!

– من أبرز المغالطات التاريخية كانت؛ تجاهُل المسلسل لدور الخلافة العباسية والعرب بشكل تام وتقليص دور الدولة الأيوبية في التّصدي للحملة الصليبية الخامسة (١٢١٨م) فأظهر أن هذه القبيلة الصغيرة هي مَن تصدَّت للحملات الصليببية، وذلك بسبب ضعف الخلافة العباسية آنذاك، كما أنّ صلاح الدين هو مَن طرَد فرسان المعبد وليس أرطغرل؛ لكن أليس من حق من يجتهد ويعمل ويوثّق التاريخ أن يُعطي نفسه النصيب الأكبر من النَّصر والفخر! لماذا ننتظر نحن العرب مِن الآخرين أن ينصفونا! أليس الأجدر بنا أن نمحي خلافاتنا وما دخل بيننا مِن فِتَن وننصف أنفسنا في عملٍ دراميّ جبّار!

إجمالاً هذه التفاصيل وغيرها لا تُعد مأخذاً كبيراً على منتجي المسلسل فالتاريخ مجرد فرضيات وأن خدمة الفكرة تعتلي هرم الأولويات وتحقق التوازان بين أحداث القصة والشخصيات الدرامية، هذه هي القوة السحرية للسينما ومن عرَفها غَنِم.

١٣٥٠ شاشة عربية على الساحة، وكما يقول المثل الشعبي "عالميدان يا حميدان" فالبقاء للأقوى دوماً، فالقوة ليست فقط عسكرياً وإنّما سياساً وفنياً – فنّياً على وجه الخُصوص.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.