شعار قسم مدونات

خارج الصندوق

blogs- شطرنج

نحن أحرار..
هل حريتنا مطلقة لمجرد أننا خارج السجون أو مراكز الاعتقال؟ أهناك من يحرك عقولنا كتلك الكراكيزِ الجامدةِ في عروض الأطفال؟ لا شك أنك قد مررت يومًا على خبرٍ "يهُزّ العالم"، وشاهدت ملايين الحملات الإعلانية و (الهاشتاغات) إما مؤيدةً أو مُعارضةً له، أو أنك كنت متيقنًا من فكرة ما، ثم وجدت نفسك فجأة تتبنى رأيًا مخالفًا لها، أو لعلك لاحظت انتشار موضة ملابس بشكل سريع حتى تكاد تشك أن المجتمع كلّه قد وقع عقد شراء نفس نمط الملابس مع الشرِكة المُنتِجة!

إن كنت قد لاحظت ذلك فهل تساءلت كيف لكل هذا العدد من الناس أن يجتمعوا على رأي واحد بِغَيْر اتفاق منهم أو تخطيط مسبق؟ وكيف تغيرت قناعاتك بشكل جذري وأصبحت تُقرّ ما كانت تنكره بالأمس؟ هذا ما أسميه "محيط الصندوق"، ولإيضاح الفكرة وفهم المصطلح تخيل أن العالم عبارة عن رقعة شطرنج وسط صندوق مفتوح من الأعلى، وتُمثِّل أحجار الشطرنج أنَاسِيَّ العالم؛ فالأحجار السامية مثل الملك والوزير والقلعة والحصان وغيرها تمثل القوى الكبرى، وتشكلُ أحجارُ الجنود عامّةَ الناس.
 

ما الذي تحتاجه لتخبر الناس بخبر مكذوب ثم تقنعهم بِصحته؟ لا شيء سوى خطة محبوكة الأطراف يختلط فيها الحق بالباطل، وبضعة أسلحة لن تحصل عليها بالمال بقدر ما تحصّلها بالدّهاء.

الآن تابع قراءة المقال وأنت تتخيل نفسك من عامة الناس "حجر جندي".. أتذَكّرُ أنني بحثتُ طويلًا عن رواية جيدة أستفيد منها وأنمي حصيلتي اللغوية والمعرفية، وكانت لي قائمة شروط طويلة برمجتُها في عقلي كي أختار على أساسها روايتين أو ثلاثة أرَشّح بينهم واحدة للقراءة.

وبعد بحثي وجدتُ روايتين شيّقتَين أثارتا اهتمامي من خلال العنوان والملخص في الغلاف الخلفي.
كان أولُ ما فعلتُه قبل قراءتهما هو البحث عن آراء القرّاء في موقع Goodreads، وفوجئت أن الرواية الأولى تلقّت تقييمات سلبية أكثر من الإيجابية بأضعاف، والآراء التي حصدت أكبر عدد من الإعجابات تتحدث عن الزلّات العديدة للكاتب وضعف أسلوبه السردي، إضافة إلى النهاية السعيدة المبتذلة التي تعبر عنها جملة: "وعاش الجميع في سعادة وهناء"!.

ازدردتُ ريقي وأنا أكمل قراءة التعليقات الأخرى، ولم يستغرق الأمر بضع دقائق لأقرر حذف الرواية من قائمة القراءة نهائيًّا. انتقلتُ إلى الرواية الأخرى لأجد أنها حصدت أربع نجمات ونصف من أصل خمسة، وصُنّفت من أكثر الروايات مبيعًا في الوطن العربي، أما التعليقات فتنوعت بين مهللٍ ومكبّرٍ ومادِحٍ وناصحٍ بالقراءة، ولا تكاد تجد نقدًا سلبيًّا إلا ويُذكَر بعده: "مع ذلك يبقى انتقادي صغيرًا أمام إبداع الكاتب الكبير (فلان)، ولا يؤثر على عمله الفني الراقي."

فـقُلت في نفسي: هنا مربطُ الفرَس! وبعد وصولي للصفحة الخمسين منها كان قراري أن المكان الأمثل لمثل هذه الرواية هو سلة القمامة لكثرة ما تحتويه من الإيحاءات الساقطة والعبارات المادحة للشذوذ، بل خشيتُ أن يأتي عامل نظافة يجيد القراءة فتقع بين يديه ويطلع على كمية قمامة أكبر مما تحتويه سلتُه! هكذا يقوم الزخم الإعلامي بإحداث الفارق في قرارك كيفما كان لمجرد أنه ذو صدًى كبير، مع العلم أني عدتُ لقراءة الرواية الأولى قبل مدة لأجد أنها -رغم الأسلوب اللغويّ العاديّ- تحمل فوائد جمّة للقارئ من الناشئة، ولا يُعاب عليها إلا بساطتها وحبكتها المُكررة.

على غرار ذلك يتم التأثير على الجماهير في مجالات أخطر من الأدب، وإن كان المثال السابقُ غيضًا من فيضِ الأمثلة الكثيرة التي تستهدف أولَ ما تستهدف (أحجار الجنود) أي عامة الناس ابتداءً من البسطاء إلى المربين فالعلماء فالقضاة فالأكاديميين فالسياسيين فـ.. هل يبدو ذلك سيرياليًّا؟

فما ترى إن أخبرتُك أن قرارك الشخصي وقناعاتك بل ودينَك الذي تدين به قد يتغير تمامًا بمجرد أن أحدهم عبّأك بِسَيلٍ من الشبهات والأسئلة التي أقنعك أنها منطقية وأنك مغمض العينين عنها بحدودٍ فرضها عليك غيرُك، ومن خطوة إلى خطوة تكون قد نجحت في الحصول على لقب "كراكيز" بجدارة.
 

آمل أن الفكرة بدأت تتكون لديك، وأن إدخالك إلى صندوق الشطرنج سهل جدًّا!
بالضبط في هذا العصر الذي صار فيه العالم قرية صغيرة بفعل وسائل الإعلام بِشتى أنواعها حتى أن الواحد منا تصله تفاصيل ما يحصل في الجانب الآخر من الكرة الأرضية بشكل آني وقبل أن تنقلها قنوات التلفاز الفضائية.

فنحن إذًا أمام شبكة عالمية يتصل بها أغلب سكان العالم، فما الذي تحتاجه لتخبر الناس بخبر مكذوب ثم تقنعهم بِصحته؟ بمعنى آخر: كيف توجّـه مشاعرهم وأفكارَهم باتجاه واحد على اختلاف عقائدهم وجنسياتهم؟ لا شيء سوى خطة محبوكة الأطراف يختلط فيها الحق بالباطل، وبضعة أسلحة لن تحصل عليها بالمال بقدر ما تحصّلها بالدّهاء.
 

ولمعرفة هذه الأسلحة انتقل من تخيل نفسك حجر شطرنج وسط الصندوق إلى الخروج من الصندوق تدريجيًّا. في البداية ستلاحظ خيوطًا رقيقة تتدلّى من الأعلى لتلتصق بكل أحجار الشطرنج في الداخل، ثم تكتشف أن هناك أياديَ تحرك تلك الخيوط فتتحرك معها الأحجار.
 

لا يتوقف خطر جعلِ العالم لعبة بين الأيادي على التأثير الإعلامي، بل إن الخطر الأكبر هو مَن أصحاب تلك الأيادي؟ وما أهدافهم؟ وإلى أيِّ مدًى يمكنهم احتلال العقول دون مقاومة؟

ألقِ نظرة من الأعلى ليتبين لك بوضوح كيف يتم التحكم بالعقول -بالأحرى قيادتِها-؟ لن تستغرق طويلًا لتجد أن الإعلام هو رأس الحربة، وهنا تقوم الأيادي التي تحرك القطع بتعليمك خطواتها على لسان الإعلام قائلة:

1. لتوجيهِ فكر ما لأحد الاتجاهات اشحن بعض العواطف البسيطة والمتطرفة دفعة واحدة (تعاطف، تعصب، استبداد، إسقاط، مؤازرة،..).
2. استعمل أسلوب التأكيد لتوضيح الفكرة الْمُرَاد توصيلها، حتى لو كانت غير مؤكَّدة .
3. أسلوب التكرار ينجح دائمًا، كرِّر حتى يحصل إغراق .
4. اجعل العدوى تنتقل باستحداث جمهور آخر ولو كان وهميًّا أو من خارج مجتمعهم لإيهام الجمهور المعزول أن هناك جماهير (قطع شطرنج) معه و تؤيده، فتكون بذلك قد منعت أي تساؤل عن الهدف، وصنعت جمهورًا معزولًا بجدارٍ فكري خاصٍّ بك .
5. لمفعولٍ أكبر استعن بشخصٍ ذي نفوذٍ اجتماعيٍّ كبير، مثل الشركات التي تستعين بالمشاهير لترويج منتجاتها فتكسب بذلك قلوب الجمهور، وهذا هو المطلوب.

وهكذا تصل الوجبة جاهزةً إلى الأهداف المطلوبة، وإن كنت بارعًا في تنفيذ الخطوات السابقة فيمكنك تحريك أكبر قطع من الشطرنج بنقلةٍ واحدة. لا يتوقف خطر جعلِ العالم لعبة بين الأيادي على التأثير الإعلامي، بل إن الخطر الأكبر هو مَن أصحاب تلك الأيادي؟ وما أهدافهم؟ وإلى أيِّ مدًى يمكنهم احتلال العقول دون أن تستطيع هذه الأخيرة أن تقاوم؟ إن الجواب عن هذه الأسئلة متعلق بك أنت.
 

أنت من تقرر هل تبقى داخل الصندوق أم تنظر خارج محيطه؟ إن قررت الخروج فانطلق للبحث عن الأجوبة بنفسك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.