شعار قسم مدونات

نحن والآخر بين قراءة التاريخ وصياغة المستقبل

blogs- اليهود

قد يتساءل البعض عن سر التقدم والتفوق للغرب علينا حتى في مجال العدالة الاجتماعية والقوانين والنظم المجتمعية والاقتصادية والسياسية، ولنأخذ نموذجاً عن الغرب: دولة الكيان. فهم ليسوا متدينين بالمعنى المعروف للتدين وأغلب فعلهم يجري بعيداً عن الوازع والضمير طالما كانوا بعيدين عن طائلة القانون فأدبياتهم وثقافتهم الشعبية تقول "إذا كنت تستطيع أن تتشاطر وتنصب وتفتري بعيداً عن طائلة القانون ولم تفعل فأنت "פרייר" (عبيط) ولكن رغم ذلك فالمحصلة تقول أنهم الأنجح ومجتمعهم أكثر عدالة.
 

فالكل خاضع للقانون ويحاكم إذا ما انكشف أمره ولذلك نجد قياداتهم تُحاكم بتهمة الفساد المالي والأخلاقي، فرئيس الدولة "كتساف" يمضي حكماً بتهمة الاغتصاب و"أولمرت" رئيس الوزراء الأسبق ينتظر أحكاماً بالسجن و"رابين" استقال من رئاسة الوزراء في السبعينات بسبب فضيحة مالية و"نتنياهو" لا يكاد يغلق ملفاً حتى ينتظر فتح الآخر، كل هذا والقائمة تطول.. حتى سلك الشرطة لم يسلم من الملفات الجنائية والتي أدت في النهاية إلى التشكيك في أهلية قادة الألوية لأن يترأسوا الجهاز مما اضطر وزير الأمن الداخلي "أردان" لأن يقترح أسماءً من الجيش والشاباك وأسقطها عليهم بالمظلة.. والشواهد على ذلك تترى.
 

اليهود وكعادتهم لم يضعوا بيضهم في سلة واحدة فواكبوا تطور أنظمة الحكم والتشريعات، وها هم يحافظون على تداول السلطة عبر الانتخابات كل أربع سنوات وبشكل ديمقراطي.

كل هذا ودولنا ترزح في الفساد المالي والأخلاقي والظلم على كافة المستويات دونما حسيب أو رقيب ما هذا التناقض؟! أهل الدين المسلمون أبعد ما يكون عن العدالة والقيم الإنسانية فيما أراذل القوم يتباهون بنظام ودولة ديموقراطية تتحقق فيها العدالة ولو بشكل نسبي. لهذه المفارقة العديد من الأسباب الذاتية والموضوعية فقد نتحدث كثيراً عن المؤامرة والاحتلال والغزو الفكري والأعداء ومكائدهم ولكن أثر ذلك يتفاوت صعوداً وهبوطاً حسب تجاربنا وقابليتنا "للاستحمار" حسب رأي المفكر "مالك بن نبي".
 

من أهم العوامل الحاسمة والفارقة بيننا وبين العدو أنهم بدأوا دولتهم وتشريعاهم وقوانينهم ونظمهم من حيث انتهى العالم، فيما نصر نحن على خوض غمار التجربة من البداية "بداية البشرية"، بل ونراوح في أماكننا مصرين على المراوحة وكلما قاربنا على إنهاء مرحلة بدأناها من جديد معلنين الرسوب فيما احترفنا فيه عبر تاريخنا من حضارة وريادة للبشرية، وهنا لعل السؤال المثالي هو لماذا نفشل وقد كنا ما كنا؟ ولماذا ينجحون وقد كانوا وما زالوا يسفون وينحطون عنا في أخلاقهم؟ والإجابة في مثل هكذا مواضيع تتشعب فهي قضية لابد فيها من تناول كافة الجوانب الذاتية والموضوعية.
 

وإذا ما شرعنا بالموضوعية والتي يحلو لنا الخوض فيها لسهولتها ولأنها تعفينا من تحمل المسؤولية وتقصر الفعل على البحث في المؤامرة والمتآمرين، وتلك قد أشبعها المؤرخون والمصلحون والباحثون في العلوم الإنسانية أشبعوها بحثاً وتقصياً فكثرت العناوين: من غزو فكري واستعمار واحتلال واستلاب واستحمار وتبشير واستيلاء على المقدرات البشرية والطبيعية.
 

وفي معترك الحياة لا ينفصل الجانب الموضوعي عن الذاتي فالعلاقة جدلية تأثيراً وتأثراً لكن لتسهيل الدراسة نتناول كلاً على انفراد:
أما العامل الموضوعي للآخر "إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، فالكيان الصهيوني وكما قال فيهم رب العزة "تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى" وتاريخهم القديم والحديث والمعاصر يشهد، فقد خاضوا العديد من الصراعات والتناحرات الداخلية، فالغرب الصليبي مثلاً خاض فيما بينه حروباً طاحنة كانت ذروتها الحربين العالميتين، أما على صعيد الكيان فقبل قيام الدولة لديهم مثلاً "الأحد الأسود" والذي تآمر فيه مؤيدو بريطانيا على معارضيها من اليهود وقاموا بتسليم جزء منهم للإنجليز وتصفية الجزء الآخر وبعد قيام الدولة كانت حادثة "ألتيلينا" الرأس البارز من جبل الجليد والذي يشي بالنزاعات والصراعات على أشدها ورغم كل ذلك فقد تضافرت الجهود لإنجاح المشروع وبناء الدولة وعلى النمط الحديث.
 

وقد أدت مجموعة من العوامل لما نرى من نجاح ومنها: المساعدات الدولية المتعاقدة بسبب عقدة الذنب لدى الغرب بعد "الهولوكوست" (المحرقة) ولكن للحقيقة والتاريخ علينا أن نعترف بأن المؤسسين بذلوا الجهود الكبيرة والتي لولاها لم تقم لهم قائمة تمثلت في شخصية قياداتهم التاريخية أمثال "هيرتزل" و"فايتسمان" و"بن غوريون" وإصرارهم على تحقيق الهدف فانصهروا جميعاً في بوتقة واحدة وكان لهذا الأخير "بن غوريون" الدور الأعظم في الإصرار على أن تكون الدولة على النمط الغربي رغم أنهم بدأوا بالنظام الاشتراكي في أبرز أحزابهم "حزب العمل" عشية المد اليساري حتى اعتقد السوفييت أنهم يشكلون موطئ قدم لهم في المنطقة، مما دفع الاتحاد السوفييتي وقتها لأن يكون من أول الدول اعترافاً بإسرائيل.
 

الصحافة كانت ذات دور في إسقاط العديد من الحكومات، فالصحافة والإعلام كانا سبباً في إسقاط "رابين" ومحاكمة "أولمرت" وفتح ملفات لـ "شارون"، فيما "باراك" و"نتنياهو" أفلتا منها بشق الأنفس.

إلا أن اليهود وكعادتهم لم يضعوا بيضهم في سلة واحدة فواكبوا تطور أنظمة الحكم والتشريعات فأصر "بن غوريون" وجماعته في حزب العمل "المعراخ" على أن تكون الدولة على النمط الغربي وها هم يحافظون على تداول السلطة عبر الانتخابات كل أربع سنوات وبشكل ديمقراطي دون انقلابات ليتشكل الكنيست في كل مرة من 120 عضواً ثم يقوم الحزب الأوفر حظاً فيه بتشكيل الحكومة ضمن ائتلاف حزبي لتتعرض بعدها الحكومة لمساءلة ومراقبة أحزاب المعارضة في الكنيست، والذي أسقط بدوره العديد من الحكومات.

ومن جهة أخرى لدينا القضاء وعلى رأسه محكمة العدل العليا "باجاتسس" والتي من شأنها محاسبة الجميع حتى الوزراء والبرلمانيين بعد سحب الثقة منهم، وهنالك مراقب الدولة الذي لديه منظومة تصدر تقريراً سنوياً ينتقد فيه كل سلطات وأجهزة الدولة بما فيها الأمنية والتقرير له عظيم أثر على الرأي العام.

وبعد ذلك لدينا الصحافة كسلطة رابعة كانت ذات دور في إسقاط العديد من الحكومات، فالصحافة والإعلام كانا سبباً في إسقاط "رابين" ومحاكمة "أولمرت" وفتح ملفات لـ "شارون"، فيما "باراك" و"نتنياهو" أفلتا منها بشق الأنفس.
 

وبالتالي لديهم نظام المحاسبة والمساءلة في أحسن صوره مصداقاً للقول "الحكم المطلق فساد مطلق" حتى ولو كان عند الإسلاميين، أخلاق القائد مهمة ولكن الأهم هو النظم والقوانين وطبيعة الحكم ودولة المؤسسات لا حكم المؤسسة والحزب والرجل القوي. فالأشخاص مختلفون بطبيعتهم ولكن النظام هو الذي يشكل هيكلية الحكم فليس مطلوباً منا أن ننتظر أمثال "عمر بن الخطاب" ليحكم فيعدل فينام، ولكن النظام القائم على المحاسبة كما ذكرنا هو ملاك الأمر وبيضة الميزان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.