شعار قسم مدونات

غزة ومفارقة الحرب

blogs - gaza
المشهد الأول
قصفٌ هنا، وقنبلةٌ هناك، ارتجاحية مرة، وضوئية أخرى، استهدافات حقيقية أو بالونات هوائية، احتلت سماء غزة يوماً أو بضع يوم، لكنّها أعادت إلى ذهنها أياماً طوالاً من العذاب، وألقت حجراً في بركة الذكريات الأليمة التي تحاول الإبقاء عليها راكدة دون جدوى، شبحٌ حرب جديدة بدأ يلوح في أفق التخمينات، كلمة من ثلاثة حروف يتداولها المحللون ووسائل الإعلام ونشطاء الإنترنت، بلا غضاضة، وهي ذاتها الحروف الثلاثة التي لا يجرؤ الكثيرون على لفظها، أو حتى إمرارها على قلوبهم، من هول ما رءوا من تتابعها عليهم، حتى منحتهم عن كل حرف حرباً! 

تنجلي كل حرب عن غزة مثقلة بجراحها، متخمة بقبور أبنائها، بالية الجسد، مهترئة الروح، لا يعوّض الحصار ما فقد، ولا يرمم ما هدم، ولا يسمح ليدٍ تمتد لتمسح دمعها، أو تطبب جرحها، وكلما ضاقت السبل بجنرالات الاحتلال روحوا عن أنفسهم بحرب يمرنون فيها جنودهم، ويجربون ترسانتهم ويحصدون أصواتاً جديدة يوارون بها سوءة فشلهم.
 
ارحموا قلب غزة المتآكل، ولا تطرقوه كل وهلة بذكر الحرب، فلم يعد فيه إلا بقية من تماسك تدخره للأيام السود التي قد تأتي.

حربٌ أخرى رابعة وستتخرج غزة من جامعة الحروب في عهد الحصار وحده! تلك المدينة التي مساحتها أصغر من أن ترى على الخريطة، وشهدت حروباً عددها يفوق عدد حروب العالم الكبرى مجتمعة، وعاش عجائزها -الذين كتب لهم البقاء إلى اليوم- ستة حروب، فقدوا في كل منها عزيزاً أو أكثر، وجددوا الدمع في كل مرة مضاعفاً عن سابقتها، حتى اختلطت عليهم الحروب وسنواتها وأعدادها، فأرّخوها بأسماء من فقدوا فيها!

توقظ كلمة الحرب معها القصص التي لا تحصى، التي رويت عن أهوال الرحى الطاحنة، والحكايا الأكثر التي دفنت تحت الركام، وأمواتاً دفنوا في قبور مجهولة، والبعض الذين دفن ما وجد من أجزائهم، وغيرهم الذين لم يدفنوا أصلاً، وآخرين في حكم المجهول، لا يعرف لهم حال إلى اليوم، فتبعث مع كل ذلك دموع الخوف والرجاء من مآقي الذين لا زالت جراحهم تنزف.  يعلم أهل غزة أن الحرب لم تضع أوزارها، وأن بقيتها تابعة لا محالة، لكنّهم يتمنون ألا تأتي هذه البقية وهم على قيد الحياة. ارحموا قلب غزة المتآكل، ولا تطرقوه كل وهلة بذكر الحرب، فلم يعد فيه إلا بقية من تماسك تدخره للأيام السود التي قد تأتي، ولا تمهدوا لها خبر قدومها، فهي مدينة يؤمن أهلها جداً بمثلهم الشعبي القائل "وقوع البلا ولا انتظاره"!

المشهد الثاني
لا تحب غزة الحرب ولا تتمناها، لكنها لو وقعت، قامت من مرقدها، وربطت عصابة الأهبة، وشدت على الجراح، وتسلحت بعظام الشهداء، وزفرت في وجه الغزاة لهيب المعاناة، وأطلقت عليه دموع القهر، فإنها لم يعد لديها ما تخسره، سقطت كل الأسماء من قاموس الفخر العربي المتآكل، ولم يعد لعربي متسع من حزن ليجيب صرخاتها، فقد باتت ليلتها تبكيهم قبل أن تبكي نفسها، فوفرت صوتها لتنادي به أبناءها المخلصين الذين ولدوا في الحروب، وترعرعوا في الحصار، وشبوا في الظلام، واتخذوا باطن الأرض مسكناً، والبندقية خليلة، فقهرت بهم أعتى جيوش الظلم، وقلبت سحرهم على كبيرهم الذي علمهم السحر، حين ألقت بأبنائها في اليم ولم تحزن، لأن الله أوحى إليها أنه رادهم إليها، أو جاعلهم من المصطفين في جنان النعيم، فأغرقوا الطغاة في أرض الطهر التي لا تقبل النجس، حتى ألقوا عصيّهم هاربين وصاحوا إن هذا لسحر مبين.

احشدوا جيشكم لغزة العصية، فلن تجدوا فيها سوى الهزيمة، ولن تزال تحيا طالما يلاعب موج البحر رمال شواطئها.

في كل مرة تودع فيها غزة أبناءها يصبح فؤادها فارغاً، لكن الله يربط على قلبها، ويمنحها قوة جديدة، ويقيناً راسخاً، ويمدها بمدد من أجيال لا تخشى حياة لا تشبه الحياة، ولا تبالي بالطفولة التائهة والشباب البالي، أجيال تربوا على التضحية لأجل بلاد لم يروها، والموت لأجل القدس التي لم يزوروها، وأقسموا يمين العودة لأرض لم يعيشوا فيها، وتحرير فلسطين التي لم يسمعوا عنها سوى في حكايات أجدادهم.

أجيال تهزأ بالحرب، وتستخف بالجيوش، ويجمعها الصاروخ الساقط حوله بدلاً من أن يفرقها، أجيال تعتبر الحياة تحدياً لا تقبل خسرانه، ومدرسة تعلم من خلالها العالم أن العزة والكرامة شيءٌ لا يقدر بالمال، ولا يقاس بالسنوات ولا بالثروات، ولا يقف في وجه ثورانه شيء أياً كان.

احشدوا جيشكم لغزة العصية، فلن تجدوا فيها سوى الهزيمة، ولن تزال تحيا طالما يلاعب موج البحر رمال شواطئها، فيداويها ويحييها، ويعطيها أملاً وسلاماً حمله من شواطئ حيفا ويافا وعكا والمجدل، وألقاه على وجهها علّه يرتد بصيراً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.