شعار قسم مدونات

الأوراق الصفراء.. شبكات المنافع في جماعة الإخوان

Muslim Brotherhood members including the general guide of the Muslim Brotherhood, Mohamed Badie, gesture from behind bars after their verdict at a court on the outskirts of Cairo, Egypt June 16, 2015. An Egyptian court sentenced deposed President Mohamed Mursi to death on Tuesday on charges of killing, kidnapping and other offences during a 2011 mass jail break. The general guide of the Muslim Brotherhood, Mohamed Badie, and four other Brotherhood leaders were also handed the death penalty. More than 80 others were sentenced to death in absentia. REUTERS/Asmaa Waguih
مثلما كان مبدأ الشمول أحَدَ أسرار قوة الجماعة وجاذبيتها، كان في تقدير كثيرين أحدَ أبرز مظاهر الضعف في صفوف الإخوان المسلمين خلال عقودها الأخيرة، إذْ كان تطبيق الشمول غالبًا ما يتم بغير أهله وبغير أدواته الحقيقية.. والتي كان من الممكن أن تعزز من قوة الجماعة، فرأينا كثيرًا من غير المتخصصين يتولَّون مسؤولية ملفات لو أُوكِلَتْ لغيرهم من أهل التخصص والتميز، وهم بوفرة واستعداد، لكان خيرًا وأحسنَ تأويلا!؛ ولقد كان ذلك من أبرز مظاهر المزاحمة والتي كانت بصورةٍ أو بأُخرى أحَدَ مكونات الروح الانقلابية في صفوف الإخوان المسلمين!
 

وفي تقديري أنَّ لهذه الروح أو الأزمة جذورا تمتد، كما أسلفنا، إلى ثمانينيات القرن العشرين، وتحديدًا عندما خاض الإخوان المسلمون المعترك السياسي على مسار الانتخابات النيابية.. ومن يومها أخذت تتكون داخل الهيكل الإخواني أفرادًا ومجموعات ذات أغراض منفعية، وراحت تُكَوِّنُ لها شبكة مصالح نصف خيوطها داخل الصف والنصف الآخر من خارجه.. وهؤلاء تغذوا من عصب الإخوان دون أن يكون لوجودهم قيمة حقيقية مضافة للجماعة كدعوة ورسالة لها تاريخها العريق.
 

وبمضي الوقت أضحت شريحة من هؤلاء تتصدر الصف في السجالات السياسية والخطاب الإعلامي، وأضحى حضورها المستمر في الصحافة ووسائل الإعلام سببًا في نُذُرِ افتتانٍ بهم داخل الصف الإخواني، حتى بات هؤلاء مؤثرين في صناعة القرار الإخواني بصورة أو بِأُخرى.. حتى لقد وقع في روع القاعدة العريضة من جماهير الإخوان الطيبين في عموم القطر المصري أنَّ هؤلاء هم قادة الإخوان مأخوذة بهالة الإعلام الساحرة.. ولقد كان لهذه الملحوظة فيما بعد تداعياتٌ سلبية داخل الصف وخارجه..
 

بعد انتخاب د.محمد مُرسى رئيسًا للبلاد بأيامٍ قليلةٍ، انخرطت الدعاية الإعلامية السوداء في إرباكه وتعجيزه هو وفريقِهِ من خلال تكثيف وتيرة المطالبة بسرعةِ حل مشكلات مستفحلة بعمر ستين عامًا.

فتارةً يحاول بعض الذين يتصدرون المشهد الإعلامي التأثير بآرائهم ووجهاتِ نظرهم الخاصة في الجماهير الإخوانية العريضة، وهذه الحالة ظهرت في أعقاب ثورة يناير، وهي حالةٌ أشبه ما توصف بأنها مزايدات استباقية على ما تقرره الجماعة أو يتخذه الحزب من مواقف وإجراءات.. وتارةً تتسرب إلى الرأي العام أخَصُّ خصوصيات الإخوان..
 

وفي اللحظة التي احتاج فيها أفراد الصف إلى الكلمة الحازمة الحاسمة.. لم يجدوا سوى خطاب المزايدة عاليًا على نداء العقل والحكمة داخل صفوف الجماعة حتى في أحرج لحظات حياتهم! بل والمؤسف أن نجد بعض أبناء جماعة الإخوان متأثَّرةً إلى حَدٍّ لافت بهذا الخطاب الإعلامي متزعزعةَ الثقة في جهازها الإداري.. الأمر الذي يمكن أنْ يمكن اعتباره استعدادًا لاستساغة هذه الروح أو المزاج الانقلابي على الذات بصورة أو بأخرى!
 

ولقد اختلطت مفاهيم القيادة لدى هذه القاعدة العريضة من خلال تداخل الأصوات ومزايدات الفضاء التلفزيوني والإلكتروني، وأصبحت مَنْ يتصدر الإعلام وكأنه قائدٌ من قيادات الجماعة يمكن الأخذ عنه.. لدرجةٍ جعلت بعضهم يصدق نفسه فيتألَّم لأنَّ الناس لا تسمع كلامه ولا تحمل خطابه محمل الجِدِّ والعمل!
 

حتى لقد تولَّدت ازدواجية القيادة شيئًا فشيئًا من خلال الاستهلاك الإخواني العاطفي المفرط للإعلام؛ وقد كانت هذه المفارقات مجالاً لمزيدات الإخوان على بعضهم البعض، خلافًا للمبادئ التي تربوا عليها وخرقًا لأعراف البيئة التي نشأوا فيها، لكن حسم المسألة بدا للوهلة الأولى لصالح ذلك الجزء الطافي على السطح بحكم حضوره في أروقة العمل البرلماني أو في الساحات السياسية والإدارية والإعلامية، ومن ثَمَّ أخذت الإغراءات تتزايد لينجر الإخوان شيئا فشيئا خلف العمل السياسي، فيما أهملت المسارات العلمية والثقافية والتربوية والدعوية والاجتماعية الأخرى. ومن ثمَّ، لم يكن مُستَبعدًا أن تثور المطامع الدنيوية الفجة في نفوس الضعفاء-وقد بدوا أكثر مِمّا يتوقع أحد!
 

وقد بدت مؤشرات خطاب المزايدات اللعينة في مشاهد عِدَّةٍ ولدى مناسبات عديدة؛ مثل: إفشاء أسرار مؤسسة الرئاسة واستباقها بالقرارات حتى توهَّمَ الناس أنَّ الرئاسة تُدار من مكتب الإرشاد، ثم سعي البعض إلى التسلط الخَفِيِّ في اللحظات الحرجة فلا يجد معارِضًا تجَنُّبًا لما رآه البعض فتنةً.. وكان من أبرز هذه المؤشرات الصادمة: مأساة العصر التي تمثلت في طريقة إدارة الاعتصامات وتسيير الاحتجاجات والعناصر المؤثرة فيها والمتحكمة في قرارها والتي صادمت نداء العقل فيها!… كل ذلك وغيره أعجز الجماعة عن التفاعل بما عرفناه عنها من حكمة ومنطق سديد حتى في أحرج المواقف!
 

ولم يكن غريبًا أن تتعلق قلوب بعض المخلصين بشهوة الظهور العشوائي والتصدر الفوضوي لمشهدٍ تُؤثِرُ غالبيته الصمت إيثارًا للعافية بدلاً من الخوض في شأنٍ لا يحيطون به عِلْمَ اليقين!، بدليلٍ أنهم فُجِعُوا في أسماءَ لامعةٍ كانوا بالأمس القريب في القلب منهم والعين! وقد كان ذلك مَلْمَحًا آخر من ملامح الاختراق الذي لم يزل مُسْتَبْعدًا لدى كثيرٍ من الإخوان الطيبين من الإخوان المسلمين!، والذي ألقى بظلال خلافاته الكثيفة حتى لقد أظلم بالأزمات الداخلية حياةَ قومٍ كان المصريون حتى عهدٍ قريبٍ يعقدون على المخلصين منهم آمالاً عريضةٍ في الخلاص..
 

وهكذا بدا الإخوان المصريون جزءًا من المشهد المصري المأزوم في عمومه، ويلوح لي أنَّ ما أصاب الصف هو صورة مصغرة مما أصاب البلاد كلها؛ وإنَّ الإخوان على أعتاب أزمة ثقةٍ كبيرة ستنتشر كالوباء! وهذه الأزمة الإخوانية المصرية الحالية لا يجوز بحقها إلا العزل أو الحجر الصحي، حتى لا تتسرب تداعياتها إلى بقية الإخوان في العالم…
 

هذه مشكلة مصرية داخلية، وليس لأحدٍ من إخوان الأقطار الأخرى أيَّةُ مصلحة للانغماس فيها والتأثُّم بالانحياز لأحَدٍ من أطرافها.. وحتى يتمكن بقية الإخوان في العالم من تقديم المشورة الأمينة للحالة المصرية وهم بمنأى عن خطر الإصابة بفيروس تلك الانقسامات المميتة!
 

وَمَنْ ينادي بمحاسبة السيسي وعصابته ومحاكمتهم دوليًّا وحدهم هو في حاجة إلى مراجعة حساباته العقلية والعاطفية والأخلاقية!

أوجه الشبه الانقلابية بين جماعة الإخوان والمشهد الانقلابي في مصر:
بعد انتخاب الدكتور محمد مُرسى رئيسًا للبلاد بأيامٍ قليلةٍ، انخرطت الدعاية الإعلامية السوداء في إرباكه وتعجيزه هو وفريقِهِ من خلال تكثيف وتيرة المطالبة بسرعةِ حل مشكلات مستفحلة بعمر ستين عامًا.. فيما راح نَفَرٌ آخرون نَزِقون يطالبونه بِدَمِ الشهداء ومحاكمة القتلة، ويتهمونه بخيانة مبادئ الثورة منادين إياه بالاستقالة ليحل محله آخر يرى نفسه الأجدر والأحق رغم كون التوفيق لم يحالفه، كما مضت "جبهةُ الإنقاذ" إلى ما مَضَتْ إليه من حماقات لم تزل آثارها تهدد الكيان المصري في وجوده الحضاري! ورغم ذلك مضت السفينة نسبيًّا إلى أهدافها، لكنَّ خرقًا هنا بعدَ خرقٍ هُناك لم تنج السفينة من إغراقٍ مكتومٍ وغَرَقٍ محتوم!

وبعد الانقلاب العسكري، لُوحِظَتْ أعراضُ حالةٍ مرَضِيَّةٍ غريبةٍ بين صفوف الإخوان، حالةٌ وصفها البعضُ إحساسًا بإحباط الفشل والبعض الآخَرُ بالإحباط والإخفاق والخسران والأفول، لكنَّ الأغرب من هذه الأوصاف الجزافية هو طبيعةُ التنفيس الإخواني عن ذلك الإحباط الذي توهمه البعض نهايةَ المطاف، إذْ بدا تنفيسًا داخليًّا حيث أقبل بعض الإخوان على بعضٍ يتلاومون بصورةٍ غيرِ معهودَةٍ!
 

ولم تمنعهم عن الاسترسال لهذا النزغ الشيطاني تلك الجراح المُثخَنةُ الحية التي لمّا يجف نزيفها.. بل بات كُلُّ مُتابِعٍ يعاين حالةً أخرى من التلاسُنِ والتلاعن والتشاحُنِ والتطاحُن والتطاعن التنظيمي، تلك التي تطورت في أحَدِ مظاهرها إلى مناداة فريقٍ على الآخَرِ بوجوب التنحي وإعطاء الفرصة لجيلٍ جديدٍ يقود دفَّةَ الجماعة بروحٍ حيوية وفكر متجدد، وبين حالةٍ وأُخرى بدا بين الإخوان ما لم يكون بحسبان أحدٍ حدوثه من كل سوءٍ وشر!
 

البعضُ يقول إنها محاولة استباقية من أجل تحميل قيادات الإخوان الحالية الفاتورة كاملة، وتسويغ إفلات مخالفيهم من تبعة المسؤولية عَمّا جرى لمصر وللإخوان، ولاسيما أنَّ كثيرًا من مُخالِفِي القيادات الحالية من المنسبين للإخوان أنفسهم قد كان في مواقع مختلفة من المسؤولية السياسية أو الحزبية أو الدعوية، وكانوا يتصدرون المَشهد، وهؤلاء تسببوا بصورةٍ أو بأُخرى في أيلولة الأمور إلى ما آلت إليه!

وأجد من المناسب هنا القول: إنَّه لا المجلس العسكري ولا السيسي ونظامه وحدهما المسؤولان عمّا حدث لمصر وللإخوان أنفسهم ولبقية المخلصين لأوطانهم.. بل يتحمّل المسؤولية مَنْ كانوا سبًبًا في ذلك على وجه التحقيق، ابتداءً من مؤسسة الرئاسة ومرورًا بِمَنْ كانوا في مواقع المسئولية على خريطة العمل السياسي والحزبي، وكذلك مَنْ كانوا يديرون المشهد السياسي فيما بعد وقوع الانقلاب حتى بلغ ذلك المشهد حالةً من التوقُّفِ والجمود في إثر جرائم الإبادة الجماعية التي مارسها الانقلابيون، والتي أشَدَّ ما أصابت من الصفوف الوطنية الإخوانَ المسلمين!. فما مدى مسؤولية كُلِّ فريقٍ عَمّا حدث؟!
 

وفي تقديري أنَّ كل هؤلاء جميعًا يتقاسمون المسؤولية عَمّا حدث، ولا بُدَّ من المحاسبة، وَمَنْ ينادي بمحاسبة السيسي وعصابته ومحاكمتهم دوليًّا وحدهم هو في حاجة إلى مراجعة حساباته العقلية والعاطفية والأخلاقية! وهذا لا يعني مصادرة جهود التوجُّهات الإصلاحية المخلصة داخل الجماعة أو المزايدة عليها، ولا ينفي، بطبيعة الحال، وجود أصحاب النوايا الطيبة الذين أكلت الغيرة على أحوال الصف قلوبهم فأُنْسَوا المبادئ المتقررة والقواعد المرسية في ممارسة الإصلاح مهما بلغت المآخذُ مبلغًا… فالجماعة على أيَّةِ حالٍ محكومةٌ بقيمٍ ومبادئ لا بردّات أفعال وعواطف وانفعالات!

 

لكنَّ ذلك لا يمنع من العودة إلى وَضْعِ الإشكال الداخلي الإخواني في صورة تساؤلٍ، قد يبدو وجيهًا من قِبَلِ البعض، وهو: لماذا لا نفترض أنَّ مغالبة القيادات القديمة لجماعة الإخوان المسلمين ومنازعتها في خصوصيتها هو جزءٌ من المزايدة عليهم بالهروب إلى الأمام للإفلات من المسؤولية عَمّا كانوا سببًا فيه… وأنَّ أيَّ محاولة للانسحاب الأخير من المشهد لن تُعفِي أحدًا من المُساءلة القانونية والأخلاقية والتاريخية مهما أعلن زهده فيما يجري واعتزاله العمل السياسي أو العمل العام… فهناك حقوقٌ لا تسقط بالتقادم؟!
 

هل ترك الجماعة الساحة سيرد إليهم ما ضاع منهم؟! وإنَّ الفرق لكبير بين أن نتداعى لقراءة الفاتحة على كائنٍ ميِّتٍ.. وبين أن نتداعى لقتل كائنٍ حيٍّ لمجرد قراءة الفاتحة على روحه!

ومن مفاجآت الروح الانقلابية، أنْ تظهر أسماءٌ جديدةٌ لمسمَّياتٍ مجهولة… ثم ما تلبث أن تختفي… ثم تُعاود الظهور المتخفِّي متبنيةً خطابات القطيعة في ظروفٍ أحوج ما تكون فيه مصر والإخوان وكافة التيارات الوطنية المخلصة إلى لَمِّ الشمل ووحدة الكلمة.. حتى لقد سئم الوطنيون سيرةَ الإخوان واستهانوا بهم واستباحوا خصوصياتهم مِنْ فرط خلافاتهم وانكشاف ظهورهم، لقد صيَّرُوا الجماعةَ عبئًا على الجميع… وفي هذا السياق لا يفوتنا أن نتساءل: منذ متى والجماعة تُسلِمُ قيادها إلى أشخاصٍ مجهولين لا تعلم غالبية الصَّفِّ عنها شيئًا؟
 

ولربما كانت هذه المجهولية هي مقدمة لاستدراج الجماعة إلى مجهولٍ لا تعلم على وجه اليقين عواقبه ولا مآلاته، ولا تستطيع فيه خِضَمِّه تحديد مسؤوليات البعض عن تصرفاته.. وبهذا تحصل الرِّدَّةُ التنظيمية إلى الإمعان في السرية والغموض الذي يبدد طموح القاعدة الشعبية الإخوانية إلى العلنية وإثبات الوجود تحت الشمس مهما عظمت التحديات وبهظت التكاليف وَغَلَت التضحيات!
 

وفي سياقٍ شبيهٍ، نجد البعض يتحدث بحديث الناعي لجماعة الإخوان الماشي في جنازتها مُشَيِّعًا إياها إلى مثواها الأخير.. متعللاً بأنها جماعة قد أدَّتْ ما عليها واستفرغت ما لديها، ولم يَعُدْ ممكنًا التجديد فيها.. وقد آن أوان منح الفرصة لكياناتٍ جديدة وأسماء جديدة استوعبت التجربة التاريخية فتعمل في ضوء معطيات جديدة لخدمة مصر والإسلام والمسلمين.. أينَ كان هؤلاء لَمّا التمعت في سماء مصر منذ أربع سنين نجوم الجماعة فانخرطوا يتحدثون عن النصر والتمكين وسوانحه وفرصه وخياراته؟! وهل خمس سنوات كافية لِسنن الصعود والتمكين أن تتحقق ثم يحدث خلالها أيضًا الهبوط والانهيار وزوال الأثر.

هل هذا هو منطق السنن الإلهية المطِّرد في البَشَرِ حتى نتعجل الحديث عن فشل التجربة وأفول عهدها؟! وهل ترك الجماعة الساحة سيرد إليهم ما ضاع منهم؟! وإنَّ الفرق لكبير بين أن نتداعى لقراءة الفاتحة على كائنٍ ميِّتٍ.. وبين أن نتداعى لقتل كائنٍ حيٍّ لمجرد قراءة الفاتحة على روحه!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.