شعار قسم مدونات

هل يتحمل الإسلاميون مسؤولية فشل الربيع العربي؟

BLOGS- الإسلاميون

بدأت موجات الربيع العربي مدنية عفوية، وحملت مطالبات إنسانية مجردة عن أي تأطير أيدولوجي أو طائفي، وشاركت في بداياتها جموع المواطنين الناقمين على سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي تتولاها أنظمة الحكم العربية المستبدة.
 

لكن هذا الأمر لم يدم طويلا، إذ سرعان ما أخذت تتنافس الأحزاب الموصوفة دهرا بالمعارِضة على ركوب موجات تلك الثورات واستثمارها، بغية تحقيق فوز سياسي يحقق لها إمكانية الحلول محل تلك الأنظمة، وتحقيق ما ترنو إليه الشعوب من صلاح وشفافية وتنمية وعدالة وغيرها من المطالبات المدنية التي حملتها هتافات وأحلام الثائرين. في المقابل نافحت الأحزاب الموالية للأنظمة نحو تسويغ إبقاء الأوضاع على ما هي عليه تحييدا للبلاد عن الولوج في فوضى عارمة لا يعرف لها نهاية، وآثر موالو تلك الأحزاب وأنصارها هدوء الاستبداد على فوضى الثورات.

بعد خمس سنوات من بداية الربيع العربي، وعشرات ألوف المسيرات والهتافات والشهداء، رحل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي ليحل محله القائد السبسي أحد أعمدة وأركان النظام السابق، وبالمثل قد ذهب القذافي ليحل محله حفتر، وذهب مبارك ليحل محله السيسي، وبقي كل من الرئيس السوري بشار الأسد واليمني محمد بن صالح برغم جميع المجازر والمآسي والنكبات التي تعرضت لها دولهم.
 

الإرث الطويل للإسلاميين جعلهم محط آمال الشعوب ورمانة ميزان صادقة في تصوُّر العرب الثائرة، مما دفع الجماهير العربية لانتخابهم في أولى المحطات الديمقراطية التي أفرزها الربيع العربي.

كان من الممكن أن تتشاطر جميع الأحزاب المعارضة مسؤولية فشل هذا الربيع في منطقة أخرى غير المنطقة العربية، والتي يصنف ثمانون بالمائة من سكانها أنفسهم على أنهم متدينون حسب آخر إحصائية أصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وقد تقلد فيها الإسلاميون على أولى ثمار النجاح الديمقراطي بعد كل ثورة.

صناعة الشعارات الكونية المتضخمة
منذ انطلاقة الإسلاميين وبداية مؤسسة نشاطهم السياسي مطلع القرن العشرين في الوطن العربي، وهم يرددون مصطلحات متواترة أضخم من أن يستوعبها منطق الواقع السياسي الناشئ لهم، كمثل: أستاذية العالم، المشروع الكوني الإسلامي، تحكيم الشريعة الإسلامية، النظام السياسي والاقتصادي الإسلامي.

طرح الإسلاميون أنفسهم وأفكارهم وشعاراتهم كنظام حياة بديل عن النظام السياسي والاجتماعي المتأثر بالعلمنة الغربية للقيم والسلوكيات، بعد أن كانت قيما محافظة مستمدة من شريعة الإسلام لعقود طويلة في الشرق الأوسط. فأخذنا نسمع بالفن الإسلامي، واللباس الإسلامي، والفكر الإسلامي.. إلخ.
 

فجوة لم تكن بالحسبان
كما هتف الإسلاميون طويلا ضد الاستبداد، وسطروا عشرات الملاحم البطولية والأدبية في مختلف المثل والقيم العليا لمواجهة مختلف مظاهر التعلمن، ودفعوا آلاف الشهداء والأسرى في أقبية السجون، وكانوا الأطول نفسا في مواجهة تلك الأنظمة عن سائر الأيديولوجيات الأخرى، مع ذلك حين تقلدوا مناصب الحكم في كل من تونس ومصر في باكورة الربيع العربي وجدوا أنفسهم أمام واقع مختلف عما كانوا يتصورونه، وأنهم أمام مسؤوليات والتزامات لم تكن بحسبانهم، على شكل اتفاقيات اقتصادية ومعاهدات دولية حالت بعيدا عن طبيعة الخطاب الذي كانوا يلقون به أنصارهم وأتباعهم من جهة، وبعيدا عن طبيعة الهدف الذي قامت عليه أصلا تلك الأحزاب كتحكيم الشريعة الإسلامية وإقامة الحدود وغيرها.
 

غياب البديل
إن الإرث الطويل للإسلاميين جعلهم محط آمال الشعوب ورمانة ميزان صادقة في تصوُّر العرب الثائرة، مما دفع الجماهير العربية لانتخابهم في أولى المحطات الديمقراطية التي أفرزها الربيع العربي. لكن لم يتمكن الإسلاميون من أن يكوِّنوا بين صفوفهم بديلا سياسيا نظاميا حقيقا يعوَّل عليه لمواجهة التحديات التي يتطلبها مقعد الحكم، وعلقوا فشلهم على أنه مؤامرة كونية لإجهاض محاولات استنهاضهم شعوبَهم، وكأنهم كانوا ينتظرون من العالم أن يفرش لهم الأرض بالورد والرياحين ليحققوا نهضات تفوق حضاراتهم؛ فاستدرك إسلاميو تونس الأمر من بدايته واتخذوا خطوة أو اثنتين للوراء، وأصر إسلاميو مصر فانتهى بهم الأمر إلى السجون، وتشتت دماء الإسلاميين في سوريا تحت أقدام فرقتهم وتشرذمهم.
 

الخطاب الديني وتأثير كلمة الإسلام
نقمة ونعمة للإسلاميين في آن واحد أن أيدولوجيتهم "الإسلامية" مرتبطة بالعاطفة العقائدية الموجِّهة لهوية وحراك جموع الشعوب الذين تتوسطهم. "الدين" وما يحمله من دوافع ومنطلقات وعواطف كان سببا في بقاء الإسلاميين وعدم انتهائهم كباقي الأيدولوجيات التي تصعد بصعود الدول المتبنية لها وتنتهي بانتهائها أو تخفت وتضعف بضعفها "النازية مثالا على الأولى واليسارية مثالا على الثانية".
 

حين أراد النظام السوري أن يشكل حركة يدعي أنها تواجهه وتشكل خطرا على العالم أكثر منه "داعش" جعلها حركة وتنظيما "إسلاميا"، ولم يخترها يسارية ولا ليبرالية ولا خلافه، بل إسلامية، لصيقة بذلك الاسم الذي من شأنه أن يقوم باستقطاب شباب متديِّن ثائر من مختلف الدول العربية، يقدم له ترجمة عملية سريعة ومتعجلة للشعارات والأحلام المتضخمة التي كان يسمعها هؤلاء الشباب في الصغر على يد الإسلاميين المعتدلين، ولو رأى هؤلاء الشباب نموذجا وازنا يلتفون من حوله، يقدم وعودا بقدر الواقع القادر على رصده، لما التفوا حول داعش، ولنبذوها.

تحمُّل الإسلاميون لمسؤولية فشل الربيع العربي هو بحجم الوعود والشعارات الكبرى التي نادوا بها في مطلع مسيرتهم، هو بحجم فشلهم في إقامة نموذج عربي عصري حضاري لنظام حكم ثوري حقيقي قادر على رصد التحديات وتقديرها ومن ثم مواجهتها لا التفاجؤ بها، حين يوضعوا أمام أول الاختبارات والتحديات. تحمُّل الإسلاميين لفشل الربيع العربي هو بحجم الحركات الإسلامية التي زادت عن التسعين فصيلا من المتقاتلين في حلب، وكلها إسلامية بلا استثناء ولم تستطع أن تحتفظ بتلك البقعة، بل أخذ يقاتل ويكفِّر كل منها الآخر.

إذا أراد الإسلاميون تنمية وعدالة حقيقية لأوطانهم فعليهم أولا أن يرصوا صفوفهم جيدا بالشكل الذي يمثله أو يريده الإسلام من جهة بدلا من البقاء ألف فصيل وألف مدرسة ومذهب.

البناء من الأسفل
يشدني بقوة نموذج الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي الذي بدأ دعوته منذ ثلاثين عاما في سوريا بخمسة أشخاص فقط في المسجد، واستمرت وتنامت دعوته حتى وصلت أصداء دروسه لجموع العالم العربي والإسلامي، دون أن يتعرض له النظام السوري ولو لمرة واحدة، بل لاقى قبولا شعبيا وحاضنة سورية قل نظيرها عن أي نظام عربي لا تمثل قبضته الأمنية على الإسلاميين كمثل واحد بالمائة مما يمثله النظام السوري. وهو نموذج يفرض نفسه بقوة على الإسلاميين اليوم في أن يحيِّدوا مقارعة الأنظمة، وأن يتركوا جانبا أي تفكير بالالتحاق في دوائر الحكم مهما أغرتهم الفرص الثورية أو الانتخابية، وأن يتفرغوا جيدا لبناء شعوب إسلامية مؤسساتية مدنية أولا تقف معهم حين يطالبون بدولة مؤسسات تؤلهم للمشاركة في صنع القرار ثم للظفر به.
 

توصيات أخيرة
إذا أراد الإسلاميون تنمية وعدالة حقيقية لأوطانهم فعليهم أولا أن يرصوا صفوفهم جيدا بالشكل الذي يمثله أو يريده الإسلام من جهة بدلا من البقاء ألف فصيل وألف مدرسة ومذهب، ومن جهة أخرى أن يحسنوا إلباس مختلف مظاهر الحداثة عمامةً مدنية تتواكب مع متطلبات العصر، عبر إيجاد بديل حقيقي لمختلف مظاهر الحياة الجمالية والاجتماعية التي تستهويها عوام المسلمين بينما تقف أمامها الشريعة وأحكام الإسلام متحفظة لما يخالطها من اختلاط وسفور لا يراه الإسلاميون بعين الرضى.
 

على الإسلاميين أن يحسنوا إعداد كوادر مؤهلة وقادرة على ممارسة العملية الديمقراطية والإعلامية بما يتناسب مع حجم التحديات والمسؤوليات المناطة بهم، كوادر قادرة على تقديم خطاب متزن وموضوعي، يحقق للشعوب بعد انتخابهم القدر الذي تعد به قبلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.