شعار قسم مدونات

فبراير الأسود في حماة

blogs- حماة

قبل الأحداث، بعد الأحداث. ظروف زمانية اعتدنا سماعها طوال الأيام التي قضيناها في تلك المدينة الحزينة، ارتبطت هذه الظروف الزمانية ببقايا جدران عتيقة على ضفتي نهر العاصي الذي يشطر المدينة الجميلة الحزينة إلى قسمين.
 

لا تُخفي هاتيك الجدران ما أخفته قلوب الحموين طوال العقود الثلاثة الماضية فهي تقول لزوارها انظروا فها هي جروح الحجر المزركش لم تندمل فكيف بجراح قلوب البشر ولو أُصمتوا. "الأحداث" تلك الكلمة التي لم أقلها يوماً أمام أحد من أصدقائي إلا وصاحب خروجها من فِيي رجفة في القلب وازدياد في تدفق هرمون الخوف "الأدرينالين" في الدم، رهبة من أن تسمعني آذان الجدران فتنقل حديثي إلى جهات "التغييب" المتخصصة، نعم هي الأحداث التي حصلت في مدينة حماة حيث بدأت بتاريخ 2 فبراير 1981 وبهذا العام يكون ذكراها الـ 35.
 

دارت بيني وبين أصدقائي من بني جيلي الكثير من الأحاديث والاستفسارات حول ماهية ما جرى في مدينتنا بداية حقبة الثمانينيات وخاصة أولئك الذين فقدوا أحداً من أقربائهم فيها أو عايشها أهلهم، ومجرد أن يبدأ الحديث، تنخفض ترددات أصواتنا إلى 21 هرتز لنفس السبب الذي ذكرته أعلاه. ونتناقل بمخيلاتنا الصور التي حدثت في شباط الأسود. فذاك الذي حدثنا نقلاً عن والدته التي عايشت الـ 27 يوم "فترة المجزرة" عن الجثث التي ملئت شوارع المدينة حيث بدأت قطط وكلاب الشوارع بنهش الجثث والأكل منها حتى توحشت.
 

دُمرت مدينة "حماة" وقُتل شعب وسجن أبرياء لتكون تلك المدينة عبرةً لباقي المدن السورية التي ستفكر بالخروج عن عصا الطاعة، وسط صمت عربي ودولي مطبقين.

والآخر الذي حدثنا عن والده الذي تم إيقافه على حائط الإعدام برفقة 30 من أصدقائه لولا تدخل القدر، بأن المشرف على الإعدام كان يعرفه معرفة سطحية وقال له ألست فلان فقال نعم فقال اركض ولا تنظر وراءك. فركض غير مدرك أهي روحه التي تركض تاركةً خلفها جسداً أتلفه صوت الرصاص الذي سمعه أم أنه فعلاً ما يزال حياً. كل تلك الصور التي حاولنا تخيلها نقلاً عن فلان وفلان لم تكن بليغة كما هي قصة "الأستاذ وحيد".
 

أستاذ اللغة العربية الذي اعتقل في اليوم الخامس عشر للمجزرة 17 فبراير 1982 وخرج عام 2002، لم أكن أعرفه بشكل شخصي. لكن ولكثرة ترددنا على منزل صديقي وجلساتنا المطولة أمام منزله كنا نراه يمر أمامنا مرور الكرام يسلم علينا باستحياء ويكمل طريقه، فيهمس لي صديقي "جاره" في كل مرة هذا الأستاذ وحيد، حتى سألته مرة وما قصة انطوائه على ذاته بهذا الشكل اللافت. فأخبرني موجز قصته التي جعلتني أنا الآخر من هولها أنطوي على نفسي.
 

وبعد أكثر من عام اطمئن لنا الأستاذ وحيد أكثر. وأخرج من داخله كلمات اختصرت لنا بعضاً مما عاناه في سجن تدمر العسكري خلال العشرين عاماً التي قضاها في غياهب النسيان والأسى، ومهما حاولت أن أصف فظاعة ما وصفه لنا لن تسعفني الكلمات ولن ترسم ها هنا تعابير الحزن والخوف الذي ارتسم على تجاعيد وجهه المغطى بلحيته البيضاء. لن تستطيع كلماتي هنا أن تخبركم كيف أنهم كانوا يقرؤون القرآن مع زملائهم في الزنزانات الثانية عن طريق علم العروض في اللغة العربية بالنقر على الجدران خوفاً ورهبةً من السجانين.
 

سمعت الكثير الكثير وهالني ما سمعت. لكن شيئاً بداخلي أراد التحقق أكثر، وأردت أن أعرف أكثر، فكان عام 2008 العام الأول الذي أخرج فيه من سوريا متوجها إلى لبنان للتسجيل في الجامعة اللبنانية فرصة لي لأذهب إلى أحد مقاهي الأنترنت التي لا تشرف عليها "جهات التغييب المتخصصة" السورية. وأفتح محرك البحث "غوغل" وأكتب في الخانة المخصصة للبحث ما يلي: أحداث حماة 1982 قرأت الكثير وليتني ما قرأت.
 

بدأت صور مدينتي المدمرة آنذاك تظهر أمامي، وبدأت صور الشهداء تتحدث لي لتخبرني بحقيقة ما جرى، رباه كم تشبه صور الدمار الحقيقي تلك الصور التي رسمتها بذهني، كم تشبه صور الشهداء وأشلاؤهم، صورهم التي رسمتها مخيلتي أثناء الحديث عنهم. لكنها كانت أقسى من تلك التي تخيلتها بآلاف المرات.

حدثتني صورة أحد الشهداء عن حي "الكيلانية" العريق المسمى آنذاك فينيسيا الشرق كيف هدمته قذائف مدفعية سرايا الدفاع برئاسة أخ رأس هرم السلطة "رفعت الأسد" فوق رؤوس ساكنيه وكتبوا على أنقاضه وأحجاره تحديهم للإله بشعار رسالتهم "لا إله إلا الوطن ولا رسول إلا البعث.

رأيت أيضاً مئذنة المسجد الأعلى الكبير "خامس مسجد في الإسلام" وهي تعانق الأرض مدمرةً بجانب كنيسة حي المدينة تبكي آلاف الشهداء الذين أعدموا ودفنوا في قبور جماعية في مقبرة سريحين "الخضراء حالياً". غلب عليَّ الخوف وأنا أحاول القراءة، التفت يميناً وشمالاً خوفاً من "جهات التغييب المتخصصة" السورية. لتصفعني خريطة لبنان الموجودة على حائط المقهى لتخبرني أنت لست هناك في بلاد "قمعستان"، هالني وأبكاني ما قرأت، لأني أيقنت بعد الساعات الست التي قضيتها في المقهى أن 40 ألف قتيل و15 ألف مغيب إما في السجون وإما تحللت أجسادهم بصمت تحت سطح الأرض.
 

رغم كل ما سمعت وقرات عما حصل في حماه 1982 وعشت وشاهدت ما حصل في سورية 2011 حتى يومنا هذا، لا يعادل يوماً واحداً في معتقل من معتقلاتهم التي اشتهيت فيها الموت وأنا على قيد الحياة.

لم يقتلوا ويُفعل بهم ما فُعل بسبب صراع على السلطة كما كان يروج نظام العائلة الحاكمة. لم تدمر مدينة من أجمل مدن سوريا من أجل القضاء على حركة الإخوان المسلمين الذين أرادوا الحكم آنذاك كما صرح رأس السلطة الحاكمة للمجتمع الدولي. إنما دُمرت مدينة وقُتل شعب وسجن أبرياء لتكون تلك المدينة عبرةً لباقي المدن السورية التي ستفكر بالخروج عن عصا الطاعة، وسط صمت عربي ودولي مطبقين.
 

إلى أن أتى آذار 2011 بربيعه الدامي وأكد لنا كسوريين بمختلف طوائفنا وأعراقنا وانتماءاتنا حقيقة العائلة الحاكمة وحقيقة ما جرى في حماه 1982 أن سورية بكافة مدنها وقراها وأحيائها وطوائفها ستكون مستباحة وستكون حماة ثانية إن فكرت بالخروج عن طاعة الأسد، وأن القتل والتدمير والتغييب لا يرتبط بزمان أو مكان معين ولا بتعتيم إعلامي كما حصل في حماة. إنما حصل بسبب صمت المجتمع الدولي والعربي والإسلامي عن أفعال آل الأسد في سوريا وعدم تقديم المجرمين لمحكمة الجنايات الدولية ومحاكمتهم عن الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية على أيدي أركان النظام الذي ما زال يمارس هواية القتل والتدمير والتشريد على امتداد الخارطة السورية وسط صمت العالم أجمع عما عاناه ويعانيه السوريين حتى يومنا هذا.

وهاهنا أريد التعبير عن خوفي على ثلة المجرمين البسطاء أن يتم منحهم حق اللجوء "الإنساني" خوفاً عليهم من غضب الإنسانية وخوفاً من انتقام دموع الثكالى واليتامى والمهجرين والمغيبين منهم. وختاماً رغم كل ما سمعت وقرات عما حصل في حماه 1982 وعشت وشاهدت ما حصل في سورية 2011 حتى يومنا هذا، لا يعادل يوماً واحداً في معتقل من معتقلاتهم التي اشتهيت فيها الموت وأنا على قيد الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.