شعار قسم مدونات

معركة مسجد تقسيم

blogs - Taksim Square in Istanbul

صادقت اللجنة الثانية لحماية الممتلكات الثقافية بإسطنبول في 19 يناير / كانون الثاني على مشروع بناء مسجد في منطقة تقسيم الشهيرة. ولم يبق بعد هذا القرار أمام تحقيق حلم طال انتظاره حوالي 50 سنة غير البدء بإنجاز المشروع المعماري الفريد الذي نشرت صحيفة "صباح" التركية صوره في عددها الصادر يوم الثلاثاء الماضي.

 

"مسجد تقسيم" الذي قد يطلق عليه لاحقا اسم آخر، سيتم بناؤه وراء "مقسم تقسيم" وهو المنشأة التي بناها السلطان العثماني محمود الأول عام 1731 لتوزيع المياه إلى شبكة المنطقة. وسيتسع لأكثر من 2500 مصليا. وستكون له مئذنتان طول كل واحدة منهما 61 مترا، وقبة كبيرة قطرها 28 مترا.

 

كان المعتصمون في "غزي باركي" بمنطقة تقسيم يرفضون أيضا إعادة بناء قلعة تقسيم التاريخية وتنفيذ المشروع الذي يهدف إلى إعادة تنظيم الميدان لتخفيف زحمة المرور

المناشدات بدأت تطلق عام 1968 للمطالبة ببناء مسجد في منطقة تقسيم بإسطنبول، إلا أنها قوبلت دائما برفض قاطع من قبل السلطات التركية. وكانت المحكمة الإدارية العليا قررت عام 1993 أن بناء مسجد أو سوق أو موقف سيارات في منطقة تقسيم لا يتوافق مع الصالح العام، ورفضت منح الرخصة لبناء مسجد فيها.

 

رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان كان آنذاك على رأس المطالبين ببناء مسجد في منطقة تقسيم. وحاول أردوغان إنجاز هذا المشروع حين كان رئيس بلدية إسطنبول ما بين عامي 1994 و1998، إلا أن القوى العلمانية المتطرفة المسيطرة على حكم البلاد آنذاك منعته من بناء مسجد في تلك المنطقة.

 

منطقة تقسيم وما حولها فيها عدد من الكنائس، لأن المسيحيين كانوا يقطنون فيها أيام الدولة العثمانية، ولكن ديمغرافية المنطقة تغيرت تماما ولم تعد منطقة ذات أغلبية مسيحية. وتوجد بالقرب من الميدان مساجد صغيرة، إلا أنها لا تتسع للمصلين في صلاة الجمعة، ويضطر الناس أن يفرشوا سجاداتهم على الطرقات لأداء صلواتهم، كما أن إقبال السياح العرب والمسلمين على زيارة تلك المنطقة السياحية ازداد في السنوات الأخيرة، ما يعني أن هناك حاجة ماسة لبناء مسجد يليق بهذا الجزء الشهير من مدينة إسطنبول.

 

لماذا تمت عرقلة مسجد في منطقة تقسيم لمدة خمسة عقود؟ لأن القوى العلمانية المتطرفة ترى ميدان تقسيم وما حوله كمنطقة محررة، وتعتبر بناء مسجد يمثل الهوية الإسلامية في تلك المنطقة اعتداء على هويتها العلمانية. كما أن ميدان تقسيم الذي يتوسطه تمثال أتاتورك تقدسه المجموعات اليسارية المتطرفة، وتصر على تنظيم الاحتفالات الخاصة بيوم العمال العالمي في ذاك الميدان الذي شهد أحداثا دموية في الأول من شهر مايو / أيار عام ١٩٧٧ راح ضحيتها ٣٤ شخصا، بالإضافة إلى ١٣٦ آخرين. وكان رئيس حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش، لفت إلى هذا التقديس، وقال في تصريحات أدلى بها قبيل يوم العمال العالمي عام ٢٠١٥ دعما للجنة تنظيم فعاليات ١ مايو / أيار، إن "مكانة ميدان تقسيم لدى العمال كمكانة الكعبة لدى المسلمين".

 

منطقة تقسيم كانت مسرحا للأحداث التي تفجرت بداية صيف ٢٠١٣ واستمرت حوالي ثلاثة أشهر، بحجة الاحتجاج على قطع عدد من أشجار حديقة في المنطقة. وكان المعتصمون في "غزي باركي" بمنطقة تقسيم يرفضون أيضا إعادة بناء قلعة تقسيم التاريخية وتنفيذ المشروع الذي يهدف إلى إعادة تنظيم الميدان لتخفيف زحمة المرور. ونشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في تلك الأيام تقريرا مطوَّلا زعمت فيه أن أصل الأزمة بين المتظاهرين والحكومة، وفقا لآراء كثير من المحللين، رغبة الأخيرة في بناء مسجد كبير في الميدان، مضيفة إلى أن بناء مسجد في منطقة تقسيم حلم الإسلاميين منذ عقود، وأن أردوغان رأى انهيار حلمه هذا عام 1997 بتدخل الجيش التركي.

 

مسجد تقسيم، مثل الحجاب، من المعارك التي خاضها الأتراك المتدينون لمدة طويلة من أجل حرية العبادة، وها هم اليوم قاب قوسين أو أدنى من النهاية السعيدة والانتصار

الأعداد السابقة للصحف التركية مليئة بالتقارير حول معركة "مسجد تقسيم" وجولاتها. ومن يقرأ التصريحات والتحليلات المعارضة للمشروع يخيل له في الوهلة الأولى أنها معركة بناء مسجد في عاصمة دولة ذات أغلبية غير مسلمة، كما تشير آراء الرافضين لبناء مسجد في منطقة تقسيم إلى حرص العلمانيين المتطرفين على إقامة "مناطق محررة" خاصة بهم وطقوسهم ونمط حياتهم، والحفاظ عليها، ومدى انزعاجهم من الهوية الإسلامية ورمزية المسجد.

 

مسجد تقسيم، مثل الحجاب، من المعارك التي خاضها الأتراك المتدينون لمدة طويلة من أجل حرية العبادة، وها هم اليوم قاب قوسين أو أدنى من النهاية السعيدة والانتصار. وهو انتصار ضد تسلط العلمانية المتطرفة التي تعادي كل ما يمت للإسلام بصلة، في بلد تصل نسبة المسلمين فيه حوالي 99 بالمائة، ومؤشر آخر لتضييق الهوة بين المواطنين وصناع القرار في البلاد. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.