شعار قسم مدونات

واسيني الأعرج يعيد كتابة التّاريخ روائيّا

Blogs- واسيني الأعرج

في إجابة له عن السّؤال، لماذا هذا الإقبال من طرف القرّاء على الرّواية التّاريخيّة؟ يقول الكاتب الجزائري واسيني الأعرج "يُقبلون عليها لأنهم لا يثقون في التاريخ". المقصود بالرّواية التاريخية هنا تلك التي توظف التاريخ وتستلهمه وتعيد تركيبه، لا تلك التي تبقى أسيرة للمرجعية التاريخية دون أن تحيد عنها قيد أنملة.

 

واسيني الأعرج رائد الرّواية التاريخية العربية بهذا المفهوم، من أبرز الروائيين العرب الذين عملوا على استدعاء التاريخ وتوظيف التراث. وذلك من خلال استخدام معطياته استخداما فنّيا لا يخلو من أبعاد ودلالات، وتوظيفها رمزيا لتحمل رُؤى المعاصرة للتجربة الأدبية. حيث يعمل الروائيّ على مزج معطيات التّاريخ بمتغيرات العصر، فتغدو هذه المعطيات تراثية معاصرة في الآن ذاته. وتصير العناصر التاريخية التراثية خيوطا أصيلة، لا دخيلة، يُعتمد عليها في نسج العمل الروائي. 

  

لماذا العودة إلى التاريخ؟ كيف استغلّ واسيني الأعرج التاريخ في صنع مادّته الرّوائية؟ ما دلالات استدعاء التاريخ في روايات واسيني الأعرج؟ وما الحدود الفاصلة بين السرد التاريخي والسرد الرّوائي؟ أسئلة حاولت مقاربتها استنادا إلى ثلاثة نماذج، تنتمي إلى مراحل مختلفة من تجربة واسيني الأعرج الرّوائيّة، وهي "رمل الماية ـ فاجعة الليلة السابعة بعد الألف"، "كتاب الأمير ـ مسالك أبواب الحديد"، "البيت الأندلسي".

 

رمل الماية ـ فاجعة الليلة السابعة بعد الألف
هي مرثية حزينة جاءت في سبعة عشر فصلا. يتولّى سردها مجموعةٌ من السّاردين بضمير المتكلّم في الغالب، بالاعتماد على تقنية المونولوج، وذلك استنادا إلى رؤية سردية مصاحبة (الرؤية مع). هؤلاء السُّرّاد/ الشخصيات يرصدون، كلٌّ من منظوره الخاصّ، شخصيّةَ البشير الموريسكي الذي يعد البؤرة المركزية للنص الروائي. والذي يهيمن صوته في مختلف مفاصل الرواية عبر التّداعي والأحلام والذكريات والتماهي في شخصيات تاريخية كشخصية ابن رشد والحلّاج والبسطامي وأهل الكهف وأبي ذرّ الغفاري، وغيرها.
 
في رواية
في رواية "رمل الماية" فقد استلهم عيونَ التراث السردي العربي العتيق اعتمادا على نصوص "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة".
 

"رمل الماية" محاكمةٌ للتاريخ، تاريخ الحكّام والسّلاطين المزيّف، الذي كتبه الورّاقون. إنها استنطاق للتاريخ المغيَّب والمسكوت عنه، فضح لمحاكم التّفتيش بلسان البشير الموريسكي، الذي يشتغل فوّالا ويتقاسم معاناته مع المسحوقين من عمال وفوّالين في الأزقّة والحواري. إنّ الروائيّ هنا يهاجم، بلسان أبطاله، تاريخ الحُكّام المزيف. فهذا البطل البشير في معرض سرده لما حدث لأبي ذرّ الغفاري، يلقي باللائمة على الطبري معتبرا إياه بأنه مؤرّخ السّلاطين. وهذه شخصية الحكيم شهريار بن المقتدر يصرخ في وجه إحدى الشخصيات: "خلّيك من الكلام الفارغ الذي تقرئينه في كتب التاريخ. التاريخ مزوّر وبدون استثناء".

  
ولا بدّ من التلميح هنا إلى انفتاح "رمل الماية" على التراث الشعبي، فبالإضافة إلى توظيف الشخصيات التاريخية التراثية مرجعيّا ورمزيا (الحكيم شهريار مثلا)، فقد استلهم عيونَ التراث السردي العربي العتيق اعتمادا على نصوص "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة". نجد المؤلّف يعطي الكلمة لِدُنيازاد أخت شهرزاد لإكمال الحكايات، وتفجير ما سكتت عنه أختها وخبّأته عن الملك شهريار، وما أجلته في الليلة الثانية بعد الألف. هذه النصوص التراثية تختزن عبقرية سردية شعبية استغلّها الكاتب بنباهة وفتَحَ آفاقها على المتخيّل الرمزيّ والأسطوري والتاريخيّ.

 
وهكذا فقد كان الغموض الذي يكتنف التاريخ /التراث، المكتوب منه وغير المكتوب، هو الذي أعطى الروائيّ حافز البحث فيه وسبر أغواره، وإعادة استنطاقه وتدوينه من جديد، ما دام المؤرخون أو الورّاقون كانوا خاضعين ل لمزاج السلطة وإملاءاتها.

 

كتاب الأمير ـ مسالك أبواب الحديد
أول رواية تكتب عن الأمير عبد القادر الجزائري، يحيلنا عنوانها الفرعيّ على ما عرفته حياة شخصية الأمير من تشعّبات وتقلّبات بين النّصر والهزيمة، وتنازع بين التشبث بالأرض والاستسلام. قسّم الأعرج متنَ الروايةِ الحكائيَّ إلى ثلاثة أقسام أو أبواب: باب المحن، باب أقواس الحكمة، باب المسالك والمهالك. الأبواب الثلاثة تتوزّعها اثنتا عشرة وقفة، كلّ وقفة تنفرد بعنوان خاصّ. هذه الوقفات الاثنتا عشرة رسمَت الخطوط التاريخية لتجربة المعاناة التي واجهها الأمير الذي أجبر في النهاية على توقيف الحرب ضد المستعمر وإلقاء السّلاح.

 

في رواية
في رواية "كتاب الأمير" الرّوائيّ أعاد كتابة التاريخ وقام بتركيبه بطريقة نقدية وجمالية، ليكشف عن الحوار الحضاري بين الإسلام والمسيحية، بين شخصية الأمير و"مونسينيور دي بوش".
 

في هذه الرّواية، واسيني الأعرج لم يكن التاريخ هاجسه ولا تَقَصّي الأحداث بغرض اختبارها. بل حاول قول ما لم يقله التاريخ بإعادة كتابة التاريخ العامّ للجزائر لا التاريخ الشّخصي للبطل عبد القادر فقط. كما حاول فنّيا تقريب المسافة بين السّرد الرّوائي والسّرد التاريخي. وبذَلَ جهدا كبيرا في جمع الوثائق التاريخية التي أثّث بها السرد الروائي. فكان هدفه دفع الأحداث والوثائق التاريخية لتكشف أكثر عن المناطق المجهولة في الوقائع التاريخية إبان فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر.

 
ومن دلالة هذا الاستدعاء التاريخي التعبير ُعن الوعي بما قدّمه الأجداد من تضحيات وكفاح، وإجلاء صورةِ بطولةِ الأمير وإنسانيّته. فالرّوائيّ أعاد كتابة التاريخ وقام بتركيبه بطريقة نقدية وجمالية، ليكشف عن الحوار الحضاري بين الإسلام والمسيحية، بين شخصية الأمير و"مونسينيور دي بوش". كما لخّص تاريخ الجزائرِ النّضاليَّ الحافلَ بالانتصارات والهزائم. وكشف النقاب عن فظاعة الحرب وهولها، ووضاعة الاستعمار البغيض، الذي تفنّن في التنكيل بالشعب الجزائريّ. شعب كان يتخبّط في الجهل والفقر والتخلّف والعنف، كلّها ظروف تظافرت في تسريع سيطرة المستعمر على البلاد، وهكذا كان انكسار مشروع الأمير.

 
هذا ولم يكن الاهتمام بهذه الشخصية التاريخيّة التي اختارت المواجهة والتّحدّي، والنّضال ضدّ المستعمر، إلا بدافع رغبة الرّوائي في إسقاط تاريخ هذا البطل على الحاضر الجزائريّ، الذي هو أحوج ما يكون إلى شخصيات ثورية تواجه الظلم، وتقف في وجه "الاستعمار الجديد".

 

البيت الأندلسي
رواية البيت الأندلسي سيمفونية أندلسية، عزفها واسيني الأعرج، من خلال استدعاء التاريخ العربي الأندلسي بإسبانيا، وتتبّعِه مسارَ الجدّ الأول "غاليليو الروخو" أو "سيدي أحمد بن خليل"، الذي طُرد مع المورسكيين عقب سقوط غرناطة فاستقر بالمحروسة (قرب وهران) وبنى بها البيت الأندلسي. وتم هذا الاستدعاء التاريخي عبر توظيف المخطوطة التاريخية، التي كانت مدار الأحداث حيث ستصل إلى "مراد باسطا" آخر سلالة البيت الأندلسي. "مراد باسطا" هو السارد في الرّواية. سيروي أحداث خمسة قرون لِـ"ماسيكا" التي تولّت مهمة البحثِ في تاريخ البيت الأندلسي وأهله ومخطوطاتهم، وجمعِ قصته كاملة. فكانت بمثابة الوسيط الذي نصَّبه المؤلّف بينه وبين السّارد الرئيسي لِلَملمة خيوط الحكاية وترتيبها.

 

أعمل المؤلِّف مِسبَرَه التاريخي في هذه الوقائع وقدّم لها قراءات جديدة، وسلّط الضوء على ما أهملته الكتابات الرّسمية أو بالأحرى ما طمسته.
أعمل المؤلِّف مِسبَرَه التاريخي في هذه الوقائع وقدّم لها قراءات جديدة، وسلّط الضوء على ما أهملته الكتابات الرّسمية أو بالأحرى ما طمسته.
 

قام الكاتب بفتح النّص الرّوائي على أحداث تاريخية كثيرة وقعت على امتداد خمسة قرون، أبرزها: مقاومة آخر المورسكيين في جبال البشارات، جرائم محاكم التفتيش الإسبانية، طرد المورسكيين، حروب القراصنة الأتراك في سواحل الجزائر، الحرب الأهلية الإسبانية، الاستعمار الفرنسي للجزائر، جرائم ما بعد الاستقلال… فقد أعمل المؤلِّف مِسبَرَه التاريخي في هذه الوقائع وقدّم لها قراءات جديدة، وسلّط الضوء على ما أهملته الكتابات الرّسمية أو بالأحرى ما طمسته.

  

ومن أمثلة ذلك أنّ الكاتب التفت إلى جوانب إيجابية سجّلها المستعمر الفرنسي، خاصة ما قام به الحاكم "ميشيل جونار" من إنجازات ذات الطابع المحلّي الجزائري الأصيل ما بين 1900 و1911. يقول السارد "لقد انقلبت السياسة الفرنسية في عهده (جونار) من سياسة التقتيل ومحاربة الثقافة العربية الإسلامية إلى دعوة صريحة للجزائريين بالتميز ثقافة ودينا ولغة، ويعود له الفضل الكبير في الحفاض على بعض معالم المدينة من الاندثار". كما أشار الكاتب، بمرارةٍ، إلى ما عانته الجزائر بُعَيد الاستقلال وهي تدشّن عصرا جديدا من القلق والاغتيالات، وتحدّث بإسهاب عن أسرار تدبير الانقلاب ضدّ ابن بيلّا.

 

فالكاتب هنا يرجع إلى الماضي، لَا لاِكتشافه وتمجيده أو البكاء عليه، بل لفهمه وكشف ثغراته ومساءلته، وجعله سندا لتجاوز تحدّيات الحاضر وبالتالي مواجهة الآتي. كما أنّ المزج بين هذه المراحل التاريخية المتباعدة ما هو إلّا محاولة من الكاتب لتقريب الماضي/ التاريخ، من الواقع الجديد، ومحاولة لتقليص الهوّة بين القيم الجديدة والقيم القديمة.

 
وهكذا فقد حرص واسيني الأعرج، في هذه النماذج الروائية الثلاثة، إن لم نقل في أغلب رواياته، على الإفادة من التاريخ في إغناء تجربته الرّوائية. وعرف كيف يمزج بين السّرد التاريخي والسّرد الرّوائي، دون وضع حدود بينهما، وكأنّه يريد التّأكيد على أنّ الكتابة الروائيّة تتماهى مع الكتابة التاريخية، وأنّ الماضي حيّ في الحاضر يمشيان في جسد موحّد ويتنفّسان برئة واحدة.

 
 إنّه كتب التاريخ العربي بفلسفة معاصرة، بطريقة خاصّة، كتابةً تضيء التاريخ عبر انفتاحها الواعي عليه.. كتابة تجعلنا نقترب من وقائع أزمنة غابرة ونرى أحداثها ومشاهدها من منظورات متباينة وزوايا متعددة. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.