شعار قسم مدونات

"ليه كده يا خطيب؟"

Blogs- الخطيب
أذكر المشهد الأول الكامل العالق في ذهني عندما كنت طفلا، فقد كان يوم اغتيال السادات، كنت في التاسعة من عمري، أتذكر تفاصيله كاملة كما أتذكر بعض التفاصيل المبعثرة قبل ذلك التاريخ ولكنني أعتبر أن الثمانينيات هي الفترة التي تشكل فيها وعي جيل كامل ربما أراه يحمل بعض الاختلاف نظرا لحجم التغييرات الحادة التي عاشها.
 
فقد بدأنا نحتك بالحياة في نمط مغاير تماما عن النمط الحالي أو حتى عن نمط الحياة في العقد التالي وهو التسعينيات، فلم يكن هناك حتى تليفون أرضي متوفر لدى الجميع، وأذكر تلك اللحظات الممتعة عندما كان يطرق الباب في أحد الأيام ونجد جدي أو أحد أقاربنا قد قرر زيارتنا، وعندما كنا نتفق لنلعب كرة القدم مع الأصدقاء في الأرض الفضاء بجانبنا في لقائنا السابق، وربما يستغرب البعض وأنا منهم أن الجميع تقريبا كان يحضر في الميعاد دون اتصال للتذكير بالميعاد.
 
فلم تكن تلك الاتصالات متاحة أصلا، وأتذكر رحلاتنا في المرج وعين شمس وسط مساحات هائلة من الحقول والبساتين تحولت الآن لغابات من القبح الخرساني، فقد كنت أسكن حي المطرية الهادئ سابقا، فقد انهار مع انهيارات القاهرة المزلزلة، فكل من عاش تلك الفترة ووعاها يدرك أن القاهرة كانت لا تزال تحتفظ بقدر كبير من بهائها، فلم يكن العسكر قد نجح في تدميرها هذا التدمير الشامل الحالي.
 
في تلك الفترة الممتعة بالنسبة لي وأعتقد أن لكل منا عقد ممتع في حياته وربما يكون دائما العقد الثاني من العمر، تلك الفترة هي ما تؤثر في البناء النفسي والفكري لكل منا، وهناك الكثير من المشاهد والأحداث والشخصيات العالقة في الذهن من تلك الفترة، أذكر أفلام عادل إمام التي كنت مغرم بها، الغول وحب في الزنزانة واحنا بتوع الأتوبيس التي كانت تعبر عن الكفاح ضد الظلم مهما كانت النتائج، كما أذكر محمد منير وأغنياته المحفزة والمختلفة دائما وكذلك الخطيب الموهوب الذي كان يحبه الجميع.
 

طغيان القبح بعد انقلاب 3 يوليو في كل مظاهر الحياة في مصر حطم كل ما قد يقال عن غياب هذا الكمون القبيح الحتمي وأوضح قدرتها الفائقة في منظومات الاستبداد
طغيان القبح بعد انقلاب 3 يوليو في كل مظاهر الحياة في مصر حطم كل ما قد يقال عن غياب هذا الكمون القبيح الحتمي وأوضح قدرتها الفائقة في منظومات الاستبداد
 

أذكر يوم اعتزال محمود الخطيب، كانت المباراة يوم الأحد وتأجلت بسبب الأمطار الغزيرة لعدة أيام وحضرت المباراة في الملعب، كنت في السادسة عشر تقريبا، اليوم بعد ثلاثين عاما تقريبا لا زالت تلك المشاهد والشخصيات عالقة في ذهني، لا أعتقد لأنها الأحداث الأهم فهناك في حياة أي منا مشاهد أكثر أهمية من تلك إلا لأنها مرتبطة بتلك الفترة الثرية في عمري.

  
الآن عندما نرى كل الأسماء التي ذكرتها بالأعلى نجدها بعيدة تماما عن كل ما نحمله عنها من أفكار، فعادل إمام لم يعد -بل لم يكن في يوم من الأيام – عادل الصحفي المناضل من أجل الحق، ولم يكن محمد منير ذلك الفارس المناضل الذي حفظنا أسماء مدن مصر في أغنيته الجميلة "تعال نلضم أسامينا"، والخطيب المحبوب لم يكن استثناءا؛ فقد صدمنا بما فعله في حملته الانتخابية من الاستعانة قولا وفعلا بما كسر الكثير مما نحمله له.
  
إن هذه الأمثلة وإن بدت بسيطة للبعض ولكنها قابلة للتطبيق على كل شيء في النصف قرن الماضي من تاريخ مصر، فهي تعبر عن القبح الكامن الطاغي حتى على ما كنا نظن أنه أكثر رقيا من ذلك، لم يسرق الانقلاب العسكري الأخير فقط أرضنا وثرواتنا وقاهرتنا ونيلنا؛ ولكنه سرق أيضا ذكرياتنا العفوية ومشاهدنا العالقة في أذهاننا عندما أعطى الضوء الأخضر للقبح الكامن للصعود، ربما يرى البعض أن هذا جيد حتى تتضح حقائق الأمور، إلا ان الكثيرين لا يملكون القدرة على تغيير قناعاتهم وتدمير كل ما يقتنعون به بسهولة، ويفضلون خداع الذات بالباطل على تحطيم كل ما يملكون من أفكار و ذكريات.
 
إن ما فعله الخطيب وغيره هو صورة شديدة الوضوح لما وصل إليه حال بلادنا من انتشار مذهل لكل ما هو سيء، فحتى لو كان الغناء وكرة القدم والتمثيل أمورا ليست مقبولة شرعيا من الغالبية بدرجات وأسباب مختلفة، إلا أن تأثيرها الكبير في الجماهير ال معاصرة لا يمكن إغفاله، وربما تلك الأدوات المعرفية لا تملك قبحا كامنا حتميا -أو هكذا نظن- إلا أن طغيان القبح بعد انقلاب 3 يوليو في كل مظاهر الحياة في مصر حطم كل ما قد يقال عن غياب هذا الكمون القبيح الحتمي وأوضح قدرتها الفائقة في منظومات الاستبداد على إفساد كل ما يتعلق بها.
 
على أية حال فلن ينتزع هذا القبح الكامن في مصر إلا بتحريرها وتحرير شعبها من سطوة الخونة مالكي القبح ومروجيه وداعميه في طول مصر وعرضها وفي كل شيء في بلادنا، وربما عندما نكون أحرارا لا نُصدم في خطيب جديد أو منير آخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.