شعار قسم مدونات

القدس لا ترى غيركم.. فهل ترونها؟

Blogs- فلسطين

تذكرتُ صورة القدس معلقة في جدار بيتنا. تذكرتُ صورتها عند حلّاق الحي. تذكرت مشاهد الصلاة فيها في رمضان. تذكرت صديقا عزيزا من فلسطين أوصيته أن يدعو لي من هناك بعد كل سجود في ترابها. تذكرت قصة إسراء النبي من مكة إلى بيت المقدس. تذكرتني أرسم شكل البراق في مخيلتي مما أسمع من أوصافه.

  

تذكرتني مندهشا من قصة عروج النبي عليه الصلاة والسلام من القدس إلى سدرة المنتهى. تذكرتني أتخيل السماوات التي عبرها واحدة تلو الأخرى وملك الله بجواره. ما كل هذا الجمال؟ رنّ صوت فيروز منشدا "يا قدس.. يا زهرة المدائن" في مسامعي. تذكرت أن القدس كانت جزءا من رحلات الحجاج المسلمين في مراحل تاريخية سابقة. تذكرت حكايات عن بركات المدينة وتاريخها وحروبها وأسوارها وأمجادها.. لكن أقوى من كل شيء، تذكرت تلك الصورة الحائطية المربعة الكبيرة المعلقة في صالون بيتنا القديم، "ما هذه الصورة؟" لعلي سألتُ، "إنها القدس يا بني".. و"أين هي؟"، "في فلسطين.. فلسطين المحتلة".

   

كبرتُ لأسمع أكبر قوة في العالم تهدي القدس للمحتل عاصمة، وأكبر ما يطمع فيه أصحابها قسمها الشرقي! وحتى هذا القسم يضن عليهم ترمب به. تزاحمت صور القدس في داخلي ومعانيها بسبب هذا الإعلان الجارح من رئيس مريض بحب الذات والمال والمصالح. رئيس يمثل أسوء أعطاب الديمقراطية التي قادت هيتلر لحكم ألمانيا، وموسوليني لحكم إيطاليا ذات زمن وطغاة آخرين، وبدا أنها تعافت من دائها، قبل أن تخرج للعالم ترمب من علبة الأدواء. أنلوم ديمقراطية أمريكا ورئيسها الأرعن وغالب الأمر أنه عابر؟ أم نلوم استبداد العرب المقيم؟ لا هذا ولا ذاك.

    

في الحالة الأولى، سنكون نلوم بلادا، صحيح أن لها نظاما ديمقراطيا معرضا للإصابة ببعض الأمراض من حين لحين، والحالة هذه ترمب، إلا أن مناعتها أقوى من الانهيار أمام رئيس أرعن مقيد بآليات رقابية متطورة وسلطة محدودة في الزمن. وفي الحالة الثانية، سنكون بصدد إلقاء اللائمة على جسد ميت. لا فائدة فيه. لولا بقية خوف من الشعوب لبايعت جل الأنظمة العربية إسرائيل جهارا نهارا.
كيف نأمل خيرا في أنظمة يسطر الاحتلال سياستها. السعودية ومن يدور في فلكها يتصوّرون المشكل في عالمنا العربي الإسلامي بالشكل الذي يريده الإسرائيليون تماما: السنة مقابل الشيعة.

  

استطاع ترمب أن يعبث بأراضيك المقدسة، وبمشاعرك وذكرياتك، ويجدد عهد جيل كامل بسيرة الأحزان والنكبات والخذلان والشماتة التي قرأتَ بعضها في كتب التاريخ فقط، وعشت بعضها الآخر
استطاع ترمب أن يعبث بأراضيك المقدسة، وبمشاعرك وذكرياتك، ويجدد عهد جيل كامل بسيرة الأحزان والنكبات والخذلان والشماتة التي قرأتَ بعضها في كتب التاريخ فقط، وعشت بعضها الآخر
 

إيران تريد نشر المذهب الشيعي في العالم السني وعلى السنة التصدي لذلك. وضمن هذه الرؤية، تصير إسرائيل حليفة للسعودية وباقي الدول السنية لوجود عدو مشترك هو إيران! وضمن هذه الرؤية يعتبر أحمقا وعميلا من يقول إن المذهب الشيعي في كافة الأحوال أقرب إلى أهل السنة من مذاهب الاحتلال ومخططاته، بما أن المذهبين (السني والشيعي) يجمعهما دين واحد، ويؤمنان بنبي واحد، وما يتفرقان فيه من أمور، مهما عظمت يمكن حلها بكل بساطة في إطار تدبير ذكي لحرية المعتقد وباستلهام سعة الفكر الإشراقي الصوفي. وفي القضايا الإقليمية الشائكة، هناك ما يسمى بسبل الدبلوماسية والتفاوض والتنازلات المشتركة والمحادثات يجب سلكها أولا قبل إعلان العداوة.

 

كيف يصح أن يجتمع الشيعي والسني تحت سقف واحد وبسلام بأمريكا وغيرها من الدول المتحضرة، ويتحولان إلى ألد الأعداء في دول المنطقة ولا يكون المشكل في الأنظمة؟ هناك من يتغذى على الاحتقان والطائفية وبث الكراهية. للأسف وصلنا إلى زمن يصير فيه الاحتلال حليفا، ويستطيع فيه دونالد ترمب، على تهوّره وركاكته ورعونته، أن يعبث بأراضيك المقدسة، وبمشاعرك وذكرياتك، ويجدد عهد جيل كامل بسيرة الأحزان والنكبات والخذلان والتواطئ والغبن والشماتة التي قرأتَ بعضها في كتب التاريخ فقط، وعشت بعضها الآخر. لكن كما قلت العتب ليس على أمريكا وديمقراطيتها المريضة، ولا على حكام انفصلوا تماما عن نبض الشعوب.

  
العتب علينا نحن. على من لا يزال يشعر بالعتب. على من يتحسر ويكتب ويتظاهر ويرسم ويغني ويسير ويصرخ ويلف عنقه بوشاح فلسطين، فيها منهُ وفيه منها، على من لم يفقد الإحساس بعدُ. العتب بما يضمره من معاني التعلق والاهتمام ولوم الذات على قلة ما في اليد. عتب نقي. عتب علينا نحن الباكون وراء السور. نحن الذين ترق القدس نفسها لحالنا فتخاطبنا برأفة الأمهات وتحنن العاشقات، واحدا واحدا، كما في بوح شاعر من ترابها، فتقول:

  
"يا أيها الباكي وراءَ السورِ، أحمقُ أَنْتْ؟ أَجُنِنْتْ؟
لا تبكِ عينُكَ أيها المنسيُّ من متنِ الكتابْ (…)
في القدسِ من في القدسِ لكنْ
لا أَرَى في القدسِ إلا أَنْتْ "

  
القدس لا ترى غيركم… فهل ترونها؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.