شعار قسم مدونات

شكراً "ترمب"!

blogs- مسجد الأقصى
تجوبُ الأيامُ حالةَ صمتٍ تكادُ لا تسمعُ فيها للمقاومةِ صوتاً، تغيبُ القدسُ عن ألسنةِ الشعوبِ المُنهكةِ في معالجةِ شؤون فقرها وفسادِ أحوالها، وتصومُ المجالسُ حيناً عن ذكرِ فلسطين كقضيةٍ أولى في هذه المنطقة بيننا. ثم يطلُّ علينا تهديد بإعلانٍ أنّ القدس للمحتلِّ لا لنا، فتعاودُ الألسنة حراكها كلاماً عن القدس وأرضها، وتبدأ العوالم الافتراضية التي باتت منفس الشعوب تفيضُ بصورٍ وكلمات وأدعيةٍ ووعيد، فنودّ لو نشكر العدو "سخريةً" أن أعاد لفتَ أنظارنا لقضيةٍ لا بدّ ألّا تغيب أبداً. 
 
من رحمةِ الله في عبدهِ أن يُظهِرَ أثرَ المرض على جسده ليعلم أنّ في داخل هذا الجسد أمراً يستوجِبُ العلاج، فتظهر الحرارةُ ليبحث الإنسان عن سببها، ولو أنّها ما ظهرت لاستطاع هذا المرض الخفي أن يفتكَ الجسد والروح، وما إن تظهر هذه الحرارةُ بفعل الخالق، حتى يبدأ دور الإنسان العاقل الذي عليه أن يختار إمّا العلاج أو البكاء. ومن رحمةِ الله في هذه الأمةِ أن تبقى مطالبُ العدو واضحةً جليّة، أن يبادرنا العدو بوعيده وتهديداته حيناً تلو حين، أن يُعلِنَ لنا مخططاته ومراده، ليأتي من بعد ذلك دور الإنسان في هذه المنطقة المهددة بسلبِ كلّ ما لها، إمّا أن يرى أثرَ العدو فيبحث عن علاجٍ، أو أن يستمرّ في البكاء والشكوى.
 
إنّ القدس قضية جوهرية، والقضايا الجوهرية لا تحلّ بردود الفعل الآنية أبداً، لا تحتاجُ القدسَ منكَ ومنّي كلماتٍ منفعلة وخطاباتٍ مشتعلة نُطلقها إشارةً لحزننا وغضبنا ثم نعود منها لأيامنا وكأنّ شيئاً لم يكن، وكأنّ أمراً لم يحدث. عندما يخبركَ العدو أنّه يريد للقدسِ أن تكون عاصمة الاحتلال، فتذكر أنّ القدس عاصمة قضاياك، أنّ القدس قبل أن تكون مدينةً من شوارعٍ وأبنية فهي قضية تسكنُ إيمانكَ وعقيدتك، أنّ القدس مرآة الأمة وميزان صلاحها، أننا لو كتبنا مئات المقالات، ولو تكلمنا مئات الساعات، ولو خضنا مئات المؤتمرات دونَ أن نحدث في أنفسنا تغييراً فلن تكونَ القدس خالصةً لنا.
 

اعتدنا القولَ بأنّ المقدسيّ هو مَن تعيشُ القدس فيه لا مَن يعيش هو في القدس فحسب، واليوم نُتبعُ ذلكَ قولاً وإيماناً بأنّ المقدسي هو مَن تعلّم من القدس صمودها
اعتدنا القولَ بأنّ المقدسيّ هو مَن تعيشُ القدس فيه لا مَن يعيش هو في القدس فحسب، واليوم نُتبعُ ذلكَ قولاً وإيماناً بأنّ المقدسي هو مَن تعلّم من القدس صمودها
 

عندما يُظهر العدو تهديده ووعيده، فإنّ القدس تستحق أن نُكثّفَ لأجلها الجهود، أن نتحرّك في كلّ المجالات، أن نهبّ غضباً فنعتصم ونتظاهر ونكتب ونشجب ونقاطع ونندد، دونَ كلٍّ ولا ملل من هذه المواقف أبداً. تستحقُ القدس أن تكونَ الكلمة الأولى في مواقع تواصلنا، وأن تكون الخبر الأول في نشراتنا، وأن تكونَ الصورة الأولى والشعارَ الأول. تستحقُ القدس أن نحشدَ الجموع لها وأن نعلي الصوتَ لأجلها وأن نشدد في الخطاب عنها. لكنّ ذلك كله لا بدّ أن يتزامَن مع إعادة توجيه لبوصلةِ اهتماماتنا، لا بدّ أن يتزامن ذلك كله مع إعادة عقدٍ للنوايا بأننا في كلِّ شؤون حياتنا نسيرُ وأعيننا لا تغيب عن القدس، أنها عاصمة النظر والحب والهوى، عاصمة الرباط والمحيى.
 
عندما يهددكَ العدو بأنه يريد إعلان القدس له وللمحتلِّ من بعده فتذكر أن أولى الخطوات إلى القدس هي "أنت"، هي روحك التي بين جنبيك. تذكر أنك في الطريق إلى القدس لا تحتاجُ لأن تنتظر معجزاتٍ من علم الغيب ولا أن تبحث عن تفسيرات وتأويلات حول نهاية العالم وبني إسرائيل، لكنك تحتاج أن تصلحَ نفسك وتعرف دورك. تحتاجُ منكَ القدس اليوم ألّا تصمتَ أبداً، وألّا تترك باباً للدفاع عنها دون أن تطرقه وتقتحمه، تريد من السياسيّ أن يمارس دوره وسلطته، ومن القانونيّ أن يخاطبَ الجهات القانونية والدولية، ومن المعلّم أن يكلِّم طلابه، ومِن المواطنِ أن يُظهِرَ موقفه، لكنها تريد منك أن تكونَ إلى جانب ذلكَ كله بحالٍ أفضل، أن تكون صاحب علمٍ أقوى، أن تكون أكثر إتقاناً، أن تربي أبناءك بصورةٍ أحسن.
 
اعتدنا القولَ بأنّ المقدسيّ هو مَن تعيشُ القدس فيه لا مَن يعيش هو في القدس فحسب، واليوم نُتبعُ ذلكَ قولاً وإيماناً بأنّ المقدسي هو مَن تعلّم من القدس صمودها، هو مَن علم أن القدس عاصمته وقضيته بوصلته، هوَ مَن تعلّم كيف لا يخذل القدسَ حتى وإن خذلتها شعوبُ العالَم أجمع. هو مَن نظرَ إلى وجهِ العدو وقال: "القدس ميثاقُ الإله فأنّى لوعدِكَ أن يغيّرها"، هو مَن سمع مقال العدو فشكره متهكّما، وضاق صدرهُ حميةً، وتمعّر وجهه عضباً، وأظهر ردَّ فعله ناشطاً، ثم مضى من بعدِ ذلك عاقدَ العزمِ على أن يقفَ على ثغرهِ مُرابطاً صادقاً مُغيراً مُتغيّراً لما فيه خير قضاياه وأمته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.