شعار قسم مدونات

تأسيسيات الحركة الجهادية(2).. البنية العلمية

blogs داعش

يُمكن القول أنّ كلّ المسائل التي تؤخذ على الحركة الجهادية تعود إلى مشكلة كبرى تعتري تلك التنظيمات هي بمثابة المسألة الأمّ، تتسبب في الخلل المنهجي في تنزيل آيات الكافرين على مجتمع المؤمنين، كما فعلت داعش، وفي الاختلاف في تكفير العوام، كما حدث بين الجماعة الإسلامية المسلحة في مصر وجماعات الجهاد في سبعينات وثمانينيات القرن الفائت، وفي فهم وتوظيف مسألة الحاكمية كما هو واضح عند جميع التيارات الجهادية، ونحو ذلك من مسائل، هذه المشكلة الأمّ هي "طبيعة البنية العلمية" لتلك التيارات.     

     

فالبناء العلمي والمعارفي لجلّ العناصر الجهادية لم يأخذ المسارات الطبيعية في التحصيل والإدراك والمَلَكة، في الأروقة والحوزات العلمية، بل أخذ مسارات مغايرة للدرس الفقهي، ولم يتأسس على الموروث الديني والثقافي للعقل الجمعي للأمة والسواد الأعظم من الفقهاء والعلماء، بل تأسس على انحصار الحقانية في تلك الفئة المجاهدة، وما سواها فيُرمى بصفات عقدية، من قبيل الفسق والخيانة وربما يصل الأمر إلى التكفير. وفي الوقت الذي نجدُ فيه الجهادية الشيعية العنيفة تُقلّد المراجع الرسميين المعبّرين عن الحوزة، نجدُ الجهادية السنية أو المحسوبة على الجسم السنّي في حالةِ عداء تامّ مع كل وكافة علماء وفقهاء الأمّة.     

 

بين الغزالي وقطب

هذا الضعف في البناء العلمي ليس تقليلاً من أي شخص أو أي فرد، بل هو واقعٌ موجود، وتحصيل البناء العلمي لابد منه لفهم تأويلات النصوص الدينية، ووضعها في موضعها، وفهمها بقدرها. وعلى الرغم من الصداقة الشديدة بين محمد الغزالي وسيد قطب، حيث أثنى سيد قطب على أول كتاب للشيخ الغزالي "الإسلام والأوضاع الاقتصادية"، وكتب مقالاً في مجلة الجمهور المصري التي كان يُصدرها أبو الخير نجيب، من صفحة كاملة، وقال قطب أن كتاب الغزالي قال الكلمة الأخيرة في الجانب الاقتصادي، وذهب إليه الغزاليّ وقال له: "إنك رددت لي ثقتي في الضمير الأدبي في مصر"، فقال قطب: "هذا يكفيني".

 

الغزاليّ أنصف سيد قطب في صلب تخصصه وهو الأدب واللغة والبيان، أمّا الفقه والأصول والشريعة فليست مجالات سيد قطب الدقيقة، كما أنّ اللغة والأدب والبيان ليست ميادين للغزاليّ
الغزاليّ أنصف سيد قطب في صلب تخصصه وهو الأدب واللغة والبيان، أمّا الفقه والأصول والشريعة فليست مجالات سيد قطب الدقيقة، كما أنّ اللغة والأدب والبيان ليست ميادين للغزاليّ
 

على الرغم من ذلك إلاّ أن الغزاليّ قد أخذَ على قطب دخوله في المعامع الدينية من غير أُسسٍ أُصوليّة، وفقهية، فقال: "تمثل الخطأ في تفكير الأستاذ سيد في أن الرجل من الناحية الفقهية كان ضحلاً ليس متعمقاً أو جامعاً لما لابد منه من الأحكامِ الفقهية، ولذلك يقول كلاماً يستحيلُ أن يقبله الفقهاء مثل: "اجعلوا بيوتكم قبلة لتكن مساجد وصلوا فيها"، هذا كلام لا يمكن أن يكون مقبولاً، والسببُ في ذلك أنْ غلبت عليه عاطفة اعتزال المجتمع وضرب الحاكم لكنه ألمع واحد في مدرسة العقاد، وعلمه بالأدب الإسلامي والعربيّ عموماً علم جيد، أما القطبيون الذين نسبوا أنفسهم له فهؤلاء لا عقل لهم ولا فقه ولا يُنظر لهم في شيء". ثمّ يلتفت الغزالي إلى المسار العلمي الممنهج الذي يعود بجذوره إلى مدارس الأمّة المعتبرة فيقول: "وعلماء الأزهر إلى الآن عندما يصورون فكرة الحاكمية يتكلمون بعقل وبدقة منطقية، وأكاد أقول إن الإسلام الذي يدرَّس في الأزهر من أدقّ المدارس لتصوير الإسلام".     

 

فالغزاليّ أنصف سيد قطب في صلب تخصصه وهو الأدب واللغة والبيان، أمّا الفقه والأصول والشريعة فليست مجالات سيد قطب الدقيقة، كما أنّ اللغة والأدب والبيان ليست ميادين للغزاليّ. فهنا يركز الغزاليّ جدا على جانب التخصص والدرس الفقهي والأصولي العميق، والمتمرس، الذي يُكسب الإدراك والملكة بعد التحصيل بأدواته المعتبرة. وعلى الرغم من الصداقة ثم الخلاف بين الرجلين إلا أنّ الغزاليّ كان رقيبا دينيا من قبل الأزهر على كتب سيد قطب وأخرج جميعها للنور، لأنه ارتأى أنّ من حقّ الأمة فيما بعد التنقيح والغربلة والحكم على ما ورد فيها بناء على نظرية "تلقي الأمّة بالقبول" التي قررها الدرس الفقهي والحديثي.

 

وكذلك لم ينس الغزالي العامل النفساني والظروف البيئية التي تحيط بالفكرة قبل مولدها، وبعده، فيقول: "وقد انفرد قطب برأيّ أملته عليه ظروف المحنة التي وقع فيها، فالأستاذ سيد له ابن أخت سُجن ظلماً وعدواناً في عهد عبد الناصر، ورأى في السجن بلاءً كثيراً، والواقع أنّ محاكمته كانت مهزلة، فالرجل كتب كتابة فيها حدّة وعنف ضد الحكّام، وتأوّل آيات القرآن على أنه لابد من اشتباك صريحٍ مع هؤلاء وليس هذا من الممكن". لكن إذا كان سيد قطب أديباً وبليغاً وتلميذاً نجيبا في مدرسة العقاد الشهيرة، فإنّ من ينسبون أنفسهم إليه اليوم ليسوا بفقهاء شريعة، ولا بأدباء في اللغة، بل أهملوا كافة تلك العلوم، وأهملوا تلقيها من مصادرها المعتمدة والمعتبرة.

 

اعتراف من قيادات الحركة الجهادية
الجهل بأحكام الشريعة شوّه جسم الحركة الجهادية، وأدخلها في متاهات الشخصانية والاقتتال الداخلي والتقوقع تحت قناع المظلومية والابتلاء والفئة الناجية، وكلّ حركة تولد وتتشظى تتهم أمّها التي انبثقت عنها

هذا الضعف في الفقه والأصول والمقاصد اكتنف الحركة الجهادية منذ تأسيسها حتى اليوم، بل ازداد بمرور الزمن إلى اعتمادِ مناهج بديلة لما استقرت وأجمعت عليه الأمّة في تاريخ درسها الفقهي والحوزوي. فالشيخ عاصم أبو حيان أحد قيادات الجهاديين في الجزائر يعزي فشل الحركة الجهادية الجزائرية إلى تنطع قيادة الجماعة وغلوها في الدين بسبب "الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية وأخلاقها، وسوء الفهم لنصوص الوحيين وسوء الأخلاق من غرور وكبر، واستعلاء، وازدراء بالآخر، وحقد وبغي وفظاظة وجهل بآداب الخلاف"، كما قال بنفس اللفظ.

وإذا أمعنا النظر في تلك السلبيات سنجدها قد اكتنفت جسم الحركة الجهادية المعاصر كله لا في بقعة دون أخرى.  ونفس هذا الذي أصاب الحركة الجهادية في الجزائر أصابها في مصر، فقد اعترف قادة الجماعة الإسلامية بعد مراجعاتهم أنّهم قتلوا أبرياء ومدنيين ظلماً، وما هذا الإقدام على سفك الأبرياء والمدنيين بالتترس إلا بسبب ضعف البنية العلمية وتحويرها عن ذاكرة الأمة وعقلها الجمعي. هذا الجهل بأحكام الشريعة شوّه جسم الحركة الجهادية، وأدخلها في متاهات الشخصانية والاقتتال الداخلي والتقوقع تحت قناع المظلومية والابتلاء والفئة الناجية، وكلّ حركة تولد وتتشظى تتهم أمّها التي انبثقت عنها ورمتها بتكفير أو تفسيق أو خيانة وهكذا في سلسلة لا نهاية لها بسبب اللاعقلانية واللاواقعية.

 

خاتمة

إذا كانت البنية العلمية لابد منها لأي جماعة أو حركة أو تيار، وإذا كان الحركيون -حتى السلميين منهم- قد تخلوا عن البناء العلمي، والدرس الفقهي المتمرس، ونبذوا عقلاءهم ممن يجمعون بين الدين والدنيا، والشريعة ومقاصدها، فإن البنية العلمية وحدها لا تكفي لنضوج تلك الحركات ورشدها، لأنها بمثابة الكوابح الداخلية، إذ لابد من توفر كوابح خارجية تفرمل أي عوارض بشرية للزعامات والقيادات المتحدثة باسم الدين حتى ولو كانوا فقهاء ثقات عدول، فالعدالة والأمانة والورع لا تكفي، إذا غُيّبت القواعد الحاكمة وأجهزة المراقبة والمحاسبة على فعل الأفراد ومؤسسات يُلجأُ إليها وقت الخلاف أيا كان نوعه، ومأسسة للتسليم والتسلّم، ونحو ذلك مما يمكن تسميته بالحتميات التي يجب التعلم منها من التجارب التاريخية والمعاصرة لممارسة تلك الحركات لأنواع شتى من الاستبداد الداخلي على أفرادها والخارجي على المجتمع. وهو ما يسميه محمد السيد سليم بنظرية "المحاسبية السياسية".

لكن وباعتبار تلك الحركات نفسها فئات ناجية، وهروبها تجاه فقه المظلوميات ونصوص النصر والتمكين، فلا يُمكن أن نتوقع منها تعديلات جريئة وعميقة على مسارها، لأنّ هناك عوامل متداخلة ومتشابكة أدت إلى تعقيد الحركة الجهادية المعاصرة وهو ما نحاول تفكيكه في هذه السلسلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.