شعار قسم مدونات

الطغاة لا يموتون..

blogs عبد الله صالح

نعم، الطغاة لا يموتون موتة طبيعية مثل باقي البشر. من فرعون حتى علي عبد الله صالح، آخرهم وليس أخيرهم مهما تجبروا يذوقون في النهاية من نفس كأس الزقام التي يسقونها لشعوبهم طيلة فترة طغيانهم. إنها حتمية تاريخية وقاعدة أخلاقية لكل طاغية يلقى مصيره على قد تجبره. ينتهون ولا يموتون حتى وإن روى لنا القرآن الكريم قصص غرقهم، حتى ولو رأيناهم يقتلون على الهواء مباشرة، أو يمثل بجثامينهم، وتسحل جثثهم، لأنهم يظلون عبرة تقصها الكتب المقدسة وترويها كتب التاريخ تذكر بها كل طاغية لعله يرعوي قبل أن يلقى نفس المصير.

 

قٌتل صالح ومٌثل بجثمانه وغزت صور جثته وهي تحمل الجروح الغائرة في رأسه مواقع التواصل الاجتماعي وشاشات القنوات التلفزية. وكل ما سيبقى من ذكراه هو صورة وجه عابس مٌستكين، باهت بلا ملامح ولا تعابير، وعينين غائرتين تخفيان نظرة منكسرة انطفأ نورها منذ فترة طويلة، وفاه شبه فاغرة بالكاد من شدة الدهشة ستحمل معها كلماتها الأخيرة إلى الأبدية.

 

علي عبد الله صالح انتصر وفشل في كل الحروب التي قادها وعددها سبع دون أن يكون بطلها الحقيقي، كان كل مرة يخرج منها بنصف انتصار ونصف مكاسب ونصف وطن ونصف شعب ونصف حياة، ونصف جسد يحمل خريطة كل تشوهاتها التي أورثها لبلده ونقل عدواها إلى شعبه.

 

صالحطيلة أربعة عقود توقف فيها الزمن في اليمن، أتقن صالح الرقص على الحبال، واللعب على الكلام، والضحك على الذقون والمشي بحذر فوق رؤوس الأفاعي كما كان يقول هو نفسه، إلى أن انتهى بلدغة سامة وقاتلة
صالحطيلة أربعة عقود توقف فيها الزمن في اليمن، أتقن صالح الرقص على الحبال، واللعب على الكلام، والضحك على الذقون والمشي بحذر فوق رؤوس الأفاعي كما كان يقول هو نفسه، إلى أن انتهى بلدغة سامة وقاتلة
 

تاريخ صالح وحروبه وصراعاته وانقلاباته وتقلباته كانت ستكون نصا روائيا رائعا، وصالح كان سيكون بطلا حقيقيا في إحدى روايات غابرييل غارسيا ماركيز لكن من سوء حظه أن كاتب الروايات الغرائبية ولد وعاش ومات على الطرف الآخر من الكرة الأرضية يروي النهايات الحزينة لجنرالات الحروب الأهلية في قارة أمريكا اللاتينية.

 

صالح جمع كل المتناقضات في حياته انقلابي ومٌنقَلِبُ عليه، فرضه انقلابه على شعبه ثورة وثورة الشعب ضده صارت في نظره انقلابا، رئيس ومخلوع، ميت وحي، مصاب وناجي، محروق ومتعافي، فاسد ومحصن من كل محاسبة أو عقاب، سارق ومسروق، شجاع وهارب، متحالف ومتآمر، متصالح ومتخاصم، حليف وعدو، مغامر وحذر، غادر ومغدور به، قاتل ومقتول. كان صالح كل شيء في بلده وفي نفس الوقت كان لا شيئا. إنه لاشيء يشبه شيئًا يشبه اللاشيءَ.

 

طيلة أربعة عقود توقف فيها الزمن في اليمن، أتقن صالح الرقص على الحبال، واللعب على الكلام، والضحك على الذقون والمشي بحذر فوق رؤوس الأفاعي كما كان يقول هو نفسه، إلى أن انتهى بلدغة سامة وقاتلة أنهت مسار لعبه العبثي الذي أصبح سمجا يمقته الأصدقاء قبل الأعداء ويتقزز منه الحلفاء قبل الخصوم.

 

الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح صعد من قاعدة الجيش إلى قمة الهرم (الجزيرة)
الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح صعد من قاعدة الجيش إلى قمة الهرم (الجزيرة)

قبل أن يُسحل الجسد الذي ظل يفرض نفسه على شعبه أينما حل وارتحل بوصفه "الرئيس الضرورة" زهاء أربعة عقود ونيف، فقد عاش صالح رئيسا فارضا نفسه ومفروضا على شعبه، ومات رئيسا مخلوعا من طرف شعبه ومخدوعا ومغدورا من حلفائه. جاء صالح إلى السلطة رئيسا وهو على ظهر الدبابة التي أقلته إلى القصر الجمهوري، وظل جاثما بجزمته العسكرية الثقيلة على شعبه رئيسا بإجماع استثنائي تصنعه صناديق الانتخابات التي أتقن تزوير نتائجها، ورئيسا دستوريا بنصوص الدساتير التي كان يغير بنودها كما يغير أحذيته العسكرية بأخرى مدنية عند الحاجة والضرورة.

 

رئيسا وهو في غرفة العناية المركزة في مشفاه السعودي، ورئيسا وهو مكمم بضمادات بيضاء لا تُظهر سوى ما تبقى من بصيص نور خافت في عينيه مثل مومياء أٌخرجت للتو من قبرها. رئيسا في محرقته وفي منفاه وفي خندقه وهو يحول سلاحه من كتف إلى أخرى حسب تبدل الحال والأحوال. عاش رئيسا مفروضا وغادر وهو رئيس مرفوض.

 

 صالح انتهى ولم ينتهي، قُتل ولم يمت، نهايته هي بداية جديدة لكل الحروب التي كان هو سببها، ومقتله هو عبرة حية ستظل تذكر الطغاة الذين يشبهونه بنهايتهم المأساوية. فبئس الماضي وبئس المآل وبئس الذكرى وساءت مرتفقا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.