شعار قسم مدونات

"محبّة فنسنت" حين يكون الموت بداية

Blogs-فان
لأنه قتل نفسه كما يقولون، أو لأنه قطع أذنه وأهداها إلى عاهرة، أو ربما لكونه أبو الفن الحديث -كما يرى القائمون على الفيلم- ربما لهذه الأسباب هو الرسام الأكثر شهرة في العالم! "فان جوخ" لم يعش بشكل طبيعي ولم يمت بشكل طبيعي فكانت النتيجة أن يتعلق به العالم بشكل غير طبيعي وأن يكون الفيلم الذي يتناول قصته أيضاً غير عادي.

فيلم "Loving Vincent"، مشاهده لوحات زيتية، إذا أضفنا إليها الموسيقى التصويرية -التي ألفها الملحن المشهور "Clint Mansell" صاحب الموسيقى التصويرية المشهور جدا والرائعة للغاية لفيلم "Requiem For a dream"– إذا أضفناها إلى اللوحات لتحولت إلى عالم خيالي، إذاً، لعل من الحق أن أصفه بملحمة فنية تجمع السينما بالرسم بالكتابة والموسيقى، ماذا قد يكون أروع لعشاق الفن؟ رغم ذلك لا يمكنني منحه هذا الوصف لإحساسي بأن هناك عنصراً مفقوداً!
  
أعجبني الفيلم، لكن قبل أن أكتب أي شيء سألت نفسي أأعجبني لأنه يستحق الإعجاب أم لأنني أحب "فان جوخ"؟ بعد وقت من التفكير اكتشفت أنني إنما أكملته لا لشيء سوى لأني أحب صانع "الليلة المتلألئة" والسبب الثاني هو استمتاعي بعملية إعادة إحياء اللوحات لا أكثر، فالسيناريو رغم كونه كالموسيقى الهادئة إلا أنها مكررة رتيبة فالحوار لا يضيف الكثير كما أن الأحداث نفسها أقل بكثير مما يمكن تمثيله بفيلم طويل كامل بل إنها حتى لا تقود إلى شيء وللأسف هذا عيب أكبر من أن يتم تجاهله فبسببه يصبح الفيلم مملاً يدفعك للتثاؤب وربما للنوم في مرحلة ما إذا كنت ممن يشاهدون الأفلام بشراهة، لأنك ستفهم وستلاحظ محاولات القائمين على الفيلم لإبقاء المشاهد متحمساً وستدرك كم هي محاولات يائسة لا جدوى منها.
  
أما عن اللوحات فقد خلقت جواً دافئا وكأنني أعيش داخلها، رغم أني في الواقع شاهدت الفيلم من اللاب توب شعرت كأنني بالسينما. وأما عن الممثلين فللأسف لم أكد أشعر بدور لأي منهم باستثناء شخصية أو اثنتين. والفكرة في إعادة إحياء اللوحات بطريقة تجعلها تبدو وكأن صاحب "المقهى الليلي" نفسه الذي رسم الفيلم عن نفسه، إبداعية ولا يسعني إلا أن أحزن وأتحسر على ضياعها والمجهود الرهيب بقصة فقيرة كتلك!
 

هذا الرجل لم يقدره أحد حق قدره، ولم يمنح أحد رسمه قيمته إلا بعدما مات بسنوات تاركاً أكثر من 800 لوحة زيتية، فعاش حياة فقر يعبر عنها عدد اللوحات التي رسمها لنفسه
هذا الرجل لم يقدره أحد حق قدره، ولم يمنح أحد رسمه قيمته إلا بعدما مات بسنوات تاركاً أكثر من 800 لوحة زيتية، فعاش حياة فقر يعبر عنها عدد اللوحات التي رسمها لنفسه
 

وبذكر القصة فهي تتحدث عن ابن موظف البريد الذي يجد نفسه مرغماً على إيصال رسالة متأخرة من "فان جوخ" الميت لأخيه "ثيو"، ولكنه إذ يبدأ الرحلة يبدأ باكتشاف أشياء أخرى تجعله ينغمس في تفاصيل الأيام الأخيرة من قصة "المجنون في عبقريته". قصة مبدع "على بوابة الخلود"…"فينسنت"، ذلك الطفل الذي جاء إلى الدنيا بعد سنة من وفاة أخ له كان ميتاً بالولادة فلم يجد في أمه إلا جسداً أجوف فقد روحه يوم فقد ابنه، فأمضى حياته محاولاً أن يحيي شيئاً بها نحوه دون فائدة.
 
الرجل الذي جرب كل شيء، ففشل في كل شيء حتى اهتدى إلى ضالته أخيراً وعرف أن ملاذه في الرسم، هذا الرجل لم يقدره أحد حق قدره، ولم يمنح أحد رسمه قيمته إلا بعدما مات بسنوات تاركاً أكثر من 800 لوحة زيتية، فعاش حياة فقر يعبر عنها عدد اللوحات التي رسمها لنفسه إذ لم يكن بإمكانه الدفع لعارضات ليرسمهن، وحتى حياة الفقر تلك لم يكن ليعيشها لولا مساعدة أخيه "ثيو" الذي ظل يدعمه بكل ما أوتي من قدرة حتى نهايته.
 
الإنسان الذي لم يؤذِ أحداً يوماً، حتى تحت تأثير المرض لم يؤذ إلا نفسه فقطع أذنه بعد جدال حاد بينه وبين صديقه الرسام "بول جوجان" بأيام، هذا الإنسان لم ينج من أذى الآخرين الذين لاحقوه من يومها يدعونه بالمجنون، بل ورفضوا إقامته كجار لهم حتى اضطر إلى الانتقال بعد تصريحه للقس "ساليس" بخواطره: "أنا لم أؤذِ أحداً يوماً بأي شكل، وأنا لا أشكل خطراً على أحدٍ".
 
بعد كل هذا كان طبيعياً أن يتوقع الناس أن ينتحر لكن هل انتحر حقاً؟ في كل هذا عامة، وفي السؤال الأخير خاصة إنما يتحدث أول فيلم "مرسوم"، الفيلم الذي استغرق من العمل سنوات ثلاث، وما يقرب من 125 فناناً محترفاً ليعيدوا الحياة لا إلى رسومات "فان جوخ" المسكين فقط وإنما إلى حياته، وخاصة أيامه الأخيرة من خلال 65000 إطار للوحات زيتية مرسومة باليد.
 
كان مستقراً بأيامه الأخيرة، كما تقول رسائله لكنه أيضاً خلالها كان يقول جملاً مثل: "أنا أشعر بالراحة هنا، لكن اليوم يمر كأنه…كأنه أسبوع..". فكانت وحدته هائلة…حتى بعدما اختار محل إقامته الأخير بالقرب من باريس ليكون قريباً من أخيه "ثيو"، إذ كان وحده طوال الوقت. ورغم ذلك كان الجميع يحكون عن كيف كان لطيفاً، يرسم بشكل يومي، ويمازح الجميع ويحبهم رغم ما كان يلقاه من أذى.

 

في حياة الرسام، قد لا يكون الموت هو أصعب شيء. بالنسبة لي، أعترف أني لا أعرف عنه شيئاً أيضاً، ولكن منظر النجوم... دائما يجعلني أحلم
في حياة الرسام، قد لا يكون الموت هو أصعب شيء. بالنسبة لي، أعترف أني لا أعرف عنه شيئاً أيضاً، ولكن منظر النجوم… دائما يجعلني أحلم
 

حتى ذلك اليوم الذي خرج فيه ليرسم كعادته وعاد جريحا برصاصة في معدته فأرسلوا إلى أخيه الذي جاء سريعاً وجلس بجانبه حتى مات بعدما أخبره "ألا يلومن أحداً" -حسبما ورد في الفيلم- وبعدها بستة أشهر فقط مات "ثيو"…الأخ الذي رعا أخاه الأكبر طول حياته، وسُجل السبب: مرضه النفسي نتيجة "الوراثة، الأمراض المزمنة، الإرهاق، والحزن"، فلم يمت بالتيفوس فقط بل بتأثير الحزن الشديد الذي تملكه ودفن معه الخبر الأكيد وراء وفاة "فينسنت" بسن السابعة والثلاثين.
 
واستغل الفيلم عدم وجود دليل قاطع على انتحاره ليطرح نظرية مقتله، متجاهلين رسالته الأخيرة التي وجدت بجيبه بعد وفاته والتي يقول فيها لأخيه: "حسناً، أنا أخاطر بحياتي من أجل عملي، والسبب وراء ذلك كامن جزئياً بداخله"…في جملة غريبة قد نفهم منها أنه إنما فعل ذلك ليمنح أعماله الحياة وركز الفيلم بالمقابل على تلك الرسالة التي من المفترض أن يوصلها موظف البريد الشاب والتي هي في الحقيقة لم تكن الرسالة الأخيرة لفان جوخ، وانتهى الفيلم بينما يقرأها البطل ووالده: "في حياة الرسام، قد لا يكون الموت هو أصعب شيء. بالنسبة لي، أعترف أني لا أعرف عنه شيئاً أيضاً، ولكن منظر النجوم… دائما يجعلني أحلم.

"لماذا؟" أسأل نفسي، لماذا لا يمكننا الوصول للضوء في السماء؟ ربما يمكننا كما نأخذ القطار للذهاب إلى تاراسكون أو روان، ربما يمكننا أن نأخذ الموت للذهاب إلى نجم. أن تموت في سلام من الشيخوخة؟ أم تذهب إلى هناك بإرادتك؟ في هذه اللحظة لا يمكنني الذهاب إلا للفراش لأن الوقت صار متأخراً. أتمنى لك ليلة جيدة، وحظاً سعيداً. بمصافحة اليد، المُحب…فينسنت".
 
لطالما تُقتُ لمعرفة تفاصيل اللحظات الأخيرة وكم تمنيت لو ألتقي بفان جوخ فيخبرني بها لكنني مع نهاية الفيلم حين قُرأت الرسالة توصلتُ إلى حالة جديدة لا أريد فيها معرفة أية تفاصيل بل أقدِّر ذلك العبقري الذي نحت أسطورة في عشر سنوات أو أقل، والذي لو التقيت به الآن لسألته عن تفاصيلٍ أخرى تخص عبقريته وتجديده للفن وثقته في عمله ليتمسك به رغم ضياع كل شيء، سأسأله عن كل هذا لكنني سأقول له قبل أي شيء: "كيف حال العبقري صاحب الشعر الأحمر؟".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.