شعار قسم مدونات

إما.. أو!

Blogs-social
لعبت منصات التواصل الاجتماعي دوراً خطيراً خلال العقدين الماضيين، سواء باعتبارها منصات بديلة عن المنصات الرسمية في طرح الأفكار وتبادل الآراء واستقاء المعلومات، أو باعتبارها ساحة مشاحنات سياسية وانقسام لامحدود. وأخطر ما يقلق في هذه المنصات بروز ظاهرة باتت لافتة -لاسيما في البلدان التي تشهد انقساماً سياسياً شديداً- وهي (إما أو)؛ أي أن تكون مؤيداً لما أقول أو أنك -لا قدر الله- من المعارضين كما في مسرحية "الهمجي".
  
ما أحوجنا إلى الاستماع إلى الآخر وتقييمه لنا، يذكر أن فتى صغيرا دخل إلى محل تسوق وجذب صندوقاً أسفل كابينة الهاتف، وقف الفتى فوق الصندوق ليصل إلى أزرار الهاتف وبدأ باتصال هاتفي، فانتبه صاحب المحل وأخذ يستمع إلى المحادثة التي يجريها الفتى، فقال الفتى: سيدتي أيمكنني العمل لديك في تهذيب عشب حديقتك؟ أجابت السيدة: لدي من يقوم بهذا العمل. قال الفتي: سأقوم بالعمل بنصف الأجرة التي يأخذها هذا الشخص، أجابت السيدة بأنها راضية بعمل ذلك الخص ولا تريد استبداله.
 
أصبح الفتى أكثر إلحاحا وقال: سأنظف أيضا ممر المشاة، والرصيف الذي أمام منزلك، وستكون حديقتك أجمل حديقة. ومرة أخرى أجابت السيدة بالنفي. تبسم الفتى وأقفل الهاتف، فتقدم صاحب المحل الذي يستمع إلى المحادثة إلى الفتى وقال له: لقد أعجبتني همتك العالية وأحترم هذه المعنويات الإيجابية فيك، وأعرض عليك فرصة للعمل في المحل. أجاب الفتى الصغير: لا، وشكرا لعرضك، فإنني كنت أريد فقط التأكد من أدائي للعمل الذي أقوم به حالياً، إنني أعمل عند هذه السيدة التي كنت أتحدث إليها.
 
لا يطلب من أحد أن يكون صاحب مواقف رمادية أو ألا يصدع بالحق أو ألا يجابه الباطل ويتصدى له أو أن يدلس مع المدلسين والمنافقين وما أكثرهم.. فهذا مرفوض شكلاً وموضوعاً، لكن، مطلوب قليل من الإنصاف وإعطاء الآخر حقه وإنزاله منزلته سواء اتفقت معه أو لم تتفق، أياً كان هذا الآخر وتوجهاته وآراؤه، إن أحسن فعليك أن تثني على ما فعل، وإن أساء فلك الحق في أن تنتقده دون تعدٍّ أو تجريح، وأن تنتقد السلوك والفعل لا الشخص.
 

إننا بحاجة أن نستمع لبعضنا ونقبل اختلاف وجهات النظر، وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه طالما أن هناك مساحة تسمح بذلك
إننا بحاجة أن نستمع لبعضنا ونقبل اختلاف وجهات النظر، وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه طالما أن هناك مساحة تسمح بذلك
 

لقد ضرب لنا المنهج القرآني مثلاً رائعاً في حق إنصاف الآخر، فهذه الآية الكريمة "إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا"، نزلت لتحكم ببراءة رجل يهودي من تهمة السرقة، إذ حاول البعض (مؤمنون) إلصاقها به تغطية على قريب لهم هو السارق، فنزل القرآن يصف "المؤمن" السارق أنه "خائن" وينصف اليهودي، ويأمر نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه ولا تكن للخائنين خصيماً"، وجعل ذلك قرآنا يتعبد به إلى يوم القيامة. كذلك في قوله تعالى "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ"، كيف أن القرآن أثنى على خُلق بعض القسيسين والرهبان بعدم الاستكبار، رغم أن الله قال في موضع آخر "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ".

  
في ظل ما تموج به منصات التواصل الاجتماعي من الاستقطاب غير المسبوق في مجتمعاتنا التي تعاني من شتى أنواع الكوارث وأخطرها، الاستبداد السياسي وانسداد الأفق، فإننا بحاجة أن نستمع لبعضنا ونقبل اختلاف وجهات النظر، وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه طالما أن هناك مساحة تسمح بذلك، وطالما كان الرأي الآخر جاء في إطار النقد البناء، وبعيداً عن التجريح والتخوين، دون تفريط في حقوق أو نكوص على عهود أو تبديد لمكتسبات، وأحسب أن المساحات التي تتسع لذلك كثيرة.
  
الإنصاف أمر عزيز على النفس حتى مع أقرب الأقربين، حتى مع الأبناء، حتى مع النفس التي بين جنبينا، لكن رغم صعوبته، إلا أنه أحد السمات المميزة التي علينا أن نتحلى بها مع أقرب الأقربين قبل الآخرين، ويجب أن نترك شعار (إما أو).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.