شعار قسم مدونات

أنا والموسيقى وموصادا

blogs كبير في السن

المرء حريص على ما يترك وراءه بعد رحيله. ولم أكن محقاً عندما قلت يوماً إنه لا يهمني بعد موتي أن تضعوا وردة على قبري؛ فالميت لا يحس. لكن الحي يحس، يحس بأنه يريد أن يترك ما يجعل الناس يتذكرونه أطول فترة ممكنة. وقد يتم له ذلك بأن يصنع شيئاً خارجاً عن المألوف، أو أن ينشر كتاباته أو ألحانه.

 

أريد نشر كتاباتي، والإنترنت يوفر فرصة عظيمة. فهو يحفظ الأشياء. لذا هيا يا عارف.. ضع كتاباتك المشتتة (من مقالات وخواطر) في هيئة كتب، واصنع لتلك الكتب أغلفة، وارم كل شيء على النت. وارفع كتبك الأخرى التي تملك حقوقها على النت، ثم اقض ما بقي لك من سنين أو أشهر في سياحات جميلة (لو عرفت مدى كرهي للسفر فقد عرفت سخف العبارة المنصرمة!). بلاش سياحة.. اقض سنواتك في كسل لذيذ، وعش مع الأمراض التي أتت والأمراض التي ستأتي، كأنك تعيش مع أصدقاء. عندما يقول لك طبيب: إحم، معك كذا! قل له: أوه، فهذا إذن صديق جديد!

 

أكتب الآن في بيئة غريبة. فالسيد موصادا ينظف لي شقتي والأرض تحت قدميَّ بحيرة. الغريب أنني لم أطلب من أحد أن ينظف تحتي.. طوال عمري. سكنت في شقق عديدة وحيداً، ولم ألجأ قط إلى عمل مأجور للتنظيف. كنت دائماً أنظف بيتي بنفسي. واليوم هو الثامن والعشرون من ديسمبر.. وبعد ثلاثة أيام تنتهي سنة 2017 وتنتهي إقامتي في هذا البيت، وأنتقل للعيش في فندق. وقد صادفت موصادا، عامل التنظيف في البناية، أول أمس فطلبت منه أن يساعدني.

 

ما سيحدث في الستة أشهر المقبلة أنني قد أستمر في التلحين.. فإذا وُفقت في العثور على صوت يؤدي ألحاني فسوف أكون من السعداء
ما سيحدث في الستة أشهر المقبلة أنني قد أستمر في التلحين.. فإذا وُفقت في العثور على صوت يؤدي ألحاني فسوف أكون من السعداء
 

ولا أطيل في وصف ما يقوم به الآن من حولي، ولا الأصوات التي تصدر عنه وهو يرفع قطع الأثاث أو يجرها. لكن التجربة كلها جديدة علي، فلها تراني أجلس وقد اقترب بعضي من بعضي. لا قهوة ولا شاي وأنا أكتب هذا الكلام. حولي بحيرة.

 

سنة جديدة وقرارات جديدة طبعاً. لا، لتكن قرارات نصف السنة المقبل. قد دونت بالنوطة عدداً لا بأس به من ألحاني. ولعلي لا أدون بعد اليوم إلا القليل، لمجرد تزجية الوقت والتمتع برؤية "الموتيفات" اللحنية وهي تعرب عن نفسها على الورق. عندما أكتب الموسيقى أنتبه إلى أشياء يكون فاتني الانتباه إليها بالأذن. لكنْ لا، لن أدون بعد اليوم إلا القليل، فأنا أصلاً بطيء في التدوين الموسيقي، وألحاني فيها نقلات مقامية توجب عليَّ أن أدقق كثيراً في علامات التحويل الطارئة.

 

ما سيحدث في الأشهر الستة المقبلة أنني سأغني معظم ألحاني. وهنا أقف وقفة تحسر. قبل أسابيع استمعت إلى تسجيل قديم أغني فيه بصوتي لحن "غيرُ مُجْد في ملتي واعتقادي"، قصيدة أبي العلاء المعري. ودهشت حد الذهول. واو، صوتي ليس رديئاً! كنت أغني باندفاع شديد، وكانت العرب صحيحة واللحن مستقيماً على حنجرتي. صوتي "لم يكن" رديئاً، أو لأقُل لم يكن الغناء رديئاً.. فصوتي رديء حقاً في الغناء، لا أشك في ذلك لحظة.

 

أهم شيء في موصادا، وفي كل إنسان عامل في الواقع، أنه لم يسأل عن شيء. ذهب خمس دقائق وأحضر أدواته الخاصة وبدأ يعمل، هذا الرجل ينظف الآن أوْضار سنتين عشتهما في هذا المنزل

أمسكت بالعود وغنيت القصيدة مرة أخرى.. وسجلت نفسي. ويا للحسرة! الصوت نفسه تراجع، والحرارة في الغناء تراجعت. ماذا حدث؟ قد شِخت قليلاً في هذه السنوات الخمس التي تفصل بين الغناءين. فكيف أقدم الآن على غناء ألحاني بعد أن تراجع صوتي وبردت مشاعري! لكن، سأغني إلحاني. وسأرفق التسجيل بالنوطات، ثم سأضم إلى ذلك فصولاً عن الموسيقى وعن التلحين. وسيكون كتاباً (كبيرا بعض الشيء) وسأطبعه على حسابي.

  

قد أستمر في التلحين.. لكنني قلت كلمتي في هذا المضمار ولم يبق عندي الكثير. فإذا وُفقت في العثور على صوت يؤدي ألحاني فسوف أكون من السعداء. هذا متروك للنصف الثاني من السنة.

 

رفعت بصري عن شاشة الحاسوب. يا له من منظر! نعم، كنت أسمع موصادا يصدر الأصوات العجيبة وهو يحرك قطع الأثاث، ولكنني -الآن فقط- رأيت ما صنع.. الكراسي فوق الكنبات، وطاولة التلفزيون زحفت إلى وسط الغرفة، كل شيء ينطق بأن ثمة ساكنا يوشك أن يغادر شقته. الآن موصادا ورائي يملأ الدلو ويصدر صوتاً غريباً.. الصنبور يملأ الدلو، وموصادا يحك صيني الحمام حكاً ذريعاً.

 

أهم شيء في موصادا، وفي كل إنسان عامل في الواقع، أنه لم يسأل عن شيء. ذهب خمس دقائق وأحضر أدواته الخاصة وبدأ يعمل، هذا الرجل ينظف الآن أوْضار سنتين عشتهما في هذا المنزل. مضت عليه ساعة ونصف، وقد فعل الكثير. لم يسأل عن شيء، اتخذ القرارات بنفسه: فصل التوصيلات الكهربائية، وفتح خزائن المطبخ وأفرغ ما فيها… إلخ.

 

أأنت ذو قلب طيب أيها القارئ؟ إن كنت كذلك، فالفكرة التي ستخطر ببالك الآن هي: هل سيعطي كاتب هذه الأسطر موصادا مكافأة مناسبة؟ أعدك بأنني سأفعل. يلمس قلبي، في المكان الأكثر طراوة فيه، ذلك الشخص الذي يخلص في عمله. موصادا سيصرُّ بعد قليل على أن يقيمني من مقعدي لكي ينظف المنضدة التي أكتب عليها. يجدر بي أن أتوقف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.